الاثنين، 6 فبراير 2012

نحن والغرب : إبداع أو اتباع؟ رؤية من خلال التلاقح النقدي المعاصر

-1-
هناك فارق جوهري بين مصطلحي التحديث والحداثة ؛ فالتحديث له شرعيته المكتسبة من كونه محاولة لصعود سلم التطوير دون التوقيع على عقد القطيعة المعرفية مع التراث ، فهو تطوير الماضي بآلية الحاضر ، أما الحداثة فمنطلقها ومنبع تفجرها هدم الماضي وقتل التراث ، يقول آلان تورين Alain Touraine  :" الحداثة هي معاداة التراث، وسقوط الأعراف والعادات والعقائد، هي الخروج من الخصوصيات والدخول إلى الكونية "([1]) ، ويقول الدكتور عبدالعزيز حمودة :" الحداثة في أبسط تعريفاتها ثورة على القوالب التقليدية المألوفة والمتوارثة "([2]) .
          من هنا يمكن وَصْف – تمثيلاً – ما فعله الشاعر الأموي الكميت بن زيد الأسدي في هاشمياته من استبدال وصف أطلال آل البيت بوصف أطلال المحبوبة – يمكن وصفه بأنه تجربة تحديث نبعت من توجه فكري ومذهبي خاص بالمبدع ، أما ما قدَّمه الشاعر العباسي أبو نواس من استبدال وصف الخمر وبيئتها بوصف الأطلال ، فيمكن وصفه بأنه تجربة حداثة تهدم التقاليد ، وتقوِّض  الأعراف ، وهي أيضاً تجربة، أدت البيئة دوراً أساسياً في تمحورها وكذلك ثقافة المبدع وظروف نشأته غير العربية .
          فالتحديث يحمل فلسفة التطوير، أما الحداثة فتحمل فلسفة التقويض، وكلاهما لا يخضع لجغرافية المكان أو لآلية الزمن، فمن الجرم أن نقصر التحديث أو الحداثة على زمن معين أو مكان محدد أو حتى على أناس بأنفسهم ، لكن ما تطمئن إليه النفس أنه أينما وحينما لاحتْ دواعي التحديث أو الحداثة وقع أحدهما أو كلاهما معاً ، كما اتضح في أمثال السابق الذي عرضته .
          والحداثة في صورتها العربية قديمة حديثة ، بمعنى أنها وقعت في الماضي ولا زالت تتجدد في الحاضر ؛ نظراً لتوافر آليات ميلادها في الماضي والحاضر ، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف الآليات من زمن إلى زمن ، ومن مكان إلي مكان ففي العصر العباسي كانت طلقة الميلاد الأولى التي تسمى شعراء مدرسة البديع
( أبو تمام ، والبحتري ، وبشار بن برد ، ومسلم بن الوليد ) ،ويصف الدكتور عزت محمد جاد ملامح حداثتهم في قوله : " لقد كانت الحداثة العربية في الأصل (ابتداعاً) ينضوي على تحول جذري واع باللحظة الزمنية الآنية ، ومدى تغايرها  لمناقضة جوامد الماضي والخروج عن المألوف خروجاً متعاقباً ، يبدأ من فردية
( الشفرة ) ، وينتهي بجماعية السِّياق ، وهي تشمل بذلك أي تغيرات طرأت وفق هذه التقنية ، في أي عصر من العصور وأي زمن من الأزمان، ولم تكن الحداثة في العصر العباسي سوى ما وقع لدى أصحاب ( مدرسة البديع )، بخروجهم عن السياق الجاهلي المألوف بشفرة جديدة ، انتصرت للصورة الفنية والمحسنات البديعية على اعتبارها محور الشعرية
Poetics  ، كما أتت على السياق الفني السائد وحطَّمته "([3]) .
          الحداثة النقدية العربية – كنظيرتها الأدبية – تشكلت في بيئتنا العربية في وقت مبكر ، ويؤكد هذا ما ذهب إليه الدكتور سامي سويدان في قوله :" قد يكون تعنُّتاً لا طائل فيه الادِّعاء بأن الحداثة – الأدبية بصورة خاصة وإنما أيضاً الفنية والثقافية والاجتماعية بصورة عامة- أمر طارئ وجديد في الإنتاج الأدبي – والنشاط الفني والثقافي والاجتماعي – لم يكن معهوداً قبل هذا القرن العشرين ، فالمساهمات الإبداعية والنقدية العربية لم تكف منذ القرن التاسع على أقل تقدير عن طرح مسألة الحداثة واستدعاء التداول بشأنها ، حتى كرست لغويًّا في أبعادها الإبداعية – التاريخية باعتبارها دالة على قطيعة مع قديم سابق ، وتأسيساً لإنجاز لاحق " ([4]) .
          يفهم الدكتور سويدان الدلالة الاصطلاحية للحداثة على أنها قطيعة مع قديم سابق وتأسيس لإنجاز لاحق ، وقد قاده هذا الفهم إلى تقدير البداية المبكرة للحداثة النقدية العربية – زمنياً – بالقرن التاسع الميلادي ، لكن يعيب هذا التقدير نقصان – بل ندرة – الأدلة والبراهين التي تؤيده ، كما أن النماذج النقدية التي تتبدي بها ملامح تلك الحداثة المبكرة غير مُشار إليها .فما مصداقية هذا التقدير الزمني ؟
          من المدرك بالبديهة أن ثمة اختلافاً بين عطاء النقد العربي قبل القرن التاسع الميلادي وبعده ، أما المرحلة القبلية فقد أشار الدكتور يوسف نور عوض الأستاذ بجامعة سالفورد بإنجلترا إلى ملامح النقد بها في قوله : " الحكم النقدي كان يخضع لمنهجية هيرميوناطيقية تقوم في أساسها على مبدأ الخبرة ؛ ذلك أن الناقد الجاهلي كان يُصدر حكمه مستنداً إلى خبرته في التراث الشعري ، ويعني ذلك أن المبدأ النظري الذي قام عليه النقد الجاهلي هو مبدأ الاستقبال المؤسس علي منهجية الخبرة التاريخية ... ولم يتغير هذا الأمر في المرحلة الأولى من ظهور الإسلام ، وكان الفرق الوحيد بين هذه المرحلة وما سبقها أن الخبرة اكتسبت أبعاداً جديدة بمجئ الإسلام ؛ ولكن ذلك لم يُغير الأساس النظري الذي قام عليه النقد ، وسار الأمر على هذا النحو حتى ظهرت المصنفات النقدية في القرن الثالث "([5]) .
          أما المرحلة البعدية، أي التي تبدأ من القرن الثالث الهجري ، وفيها تتشكل ملامح الحداثة النقدية العربية خطوة خطوة ، وأولى هذه الخطوات وضع المصنفات النقدية التي تعتمد في أحكامها النقدية على الدرس والتحليل لا على مبدأ الاستقبال المؤسس على منهجية الخبرة التاريخية .
          وفي رحم كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي ( ت 232هـ) يتشكل جنين الحداثة ، وتبدو ملامحه الأولي في الانتقال خطوة حرجة نحو التنظير، " بدأ ابن سلام كتابه بالتأكيد علي أن للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات ، ووضع بذلك الأساس النظري لمنهجه ، ذلك أن فهم الشعر يحتاج لنظرية وهذه النظرية لابد وأن تؤسس علي مبادئ يعرفها أهل العلم والنظر في هذا المجال وتلك نقلة مهمة في نظيرة النقدية العربية، أتبعها محمد بن سلام بقضية الانتحال التي ظن كثير من المؤرخين أنها قضية مُستقلة تتعلق فقط بالجانب التاريخي للشعر العربي ، مع أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفكرة الأساسية التي أراد أن يستند إليها محمد بن سلام في تمييزه بين الشعراء وهي فكرة الطبقات...فإن التحقق من سلامة النصوص يُصبح حينئذٍ مطلباً أمام الناقد ؛ لأنه لا قيمة للتعامل مع نص دون التحقق من عصره وقائلة ". ([6])
          لا شك أن المحاولات الأولي يُصيبها الضعف ، لكن ما يُحمد لابن سلام أن محاولته وضعت بذرة التنظير في أرض النقد العربي ، قد أدرك أن الشعر صناعة يحتاج فهمها إلي علم ، وأن كان الدكتور جابر عصفور يري أن : " صيغة العلم بالشعر عن ابن سلام كانت تعني رواية الأشعار والقدرة علي تمييز المصنوع
(المنتحل) الذي لا خير فيه ، وأهم من ذلك أنها لا تستند هذه القدرة إلي أساس عقلي ثابت يمكن أن يلتقي حوله الجميع ، التقاء النقاد حول محور أو أكثر من محاور القيمة بل كانت صنيعة ابن سلام تسند الخبرة إلي كثرة المدارسة "([7]) .
          إن ابن سَلام حينما دعا إلي علم للشعر لم يكن مدركاً للأسس العقلانية التي ينبني عليها هذا العلم ، بسبب وقوعه تحت سيطرة مبدأ الخبرة والدربة ؛ لذلك يفضل الدكتور جابر عصفور محاولة ابن طباطبا العلوي ( ت 322هـ) عيار الشعر ، ومحاولة قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ) نقد الشعر علي محاولة ابن سلام الجمحي طبقات فحول الشعراء ، ثم يقول عنهما : " إن صيغة علم الشعر الذي نجدها في كتاب ابن طباطبا أو قدامة ، هي صيغة وصلت إلي درجة المصطلح المتميز الذي يشير إلي تزاوج المعارف التقليدية المتصلة بعلوم العرب اللغوية ، والمعارف غير التقليدية المتصلة بالفلسفة ، ومن التزاوج بين هذين اللونين من المعارف تأسس النقد النظري في تراثنا النقدي ، وتحرك علي أساس عقلاني  ، يتجاوز الأساس النقلي الذي يلوذ بثقة القارئ أو تعاطفه إلي أساس جديد يعتمد علي التأصيل ، ويلوذ بالتعليل ، والتحليل ، والتفسير ، كي يصل إلي الإقناع لا التعاطف "([8]).
          تبدو حداثة الخطاب النقدي عند ابن طباطبا العلوي ، وقدامة بن جعفر في الإفادة من المعطي الفلسفي اليوناني ؛ لأن الوعي الفلسفي كان محفزاً  علي ميلاد التنظير ، يقول الدكتور صفوت الخطيب : " أن النقد العربي النظري ، كان دوماً بتأثير الوعي الفلسفي ؛ إذ أن الفلسفة تمنح هذه النظرة الشمولية القادرة علي استقراء الظواهر من الفوق ، ثم الهبوط بالقوانين والنظريات التي يؤيدها تعدد الظواهر وتكرارها إلي حد يقترب من الثبات "([9]) .
          ولكن الحداثة النقدية هنا لم تكن ارتماءً في أحضان الفكر الفلسفي  اليوناني مع قطيعة معرفية مع التراث ، وإزدراء له وتحقيراً لمنجزاته ، بل كانت حداثة ابن طباطبا العلوي في الإفادة منهما معاً ، يقول الدكتور  جابر عصفور :"ليس معني هذا أن ابن طباطبا ينطلق إلي آفاق فلسفة الفن بوجه عام ، كما فعل بعض معاصريه ، من أمثال أحمد ابن الطيب السرخسي أو الفارابي ، وإنما هو شاعر عالم جمع المعارف التقليدية ( النقلية ) التي أسهم بها اللغويون وغيرهم من علماء القرن الثالث ، وحاول أن يطورها في ضوء ما تلقفه عن معارف الفلسفة في عصره ، خاصة ما يتصل منها بقضية الشعر وعلاقته بغيره من الفنون "([10])
          ولمثل  هذا أيضاً يهاجم الدكتور يوسف نور  عوض النقادج الذين أوقفوا جهد قدامة بن جعفر علي أنه يصدر عن موقف عقلاني منطقي متأثر بالفلسفة اليونانية ، وأنه مجرد أثر من آثار الثقافة اليونانية ، ويقول منصفاً له : " قدامة بن جعفر انطلق من فكرة واضحة استهدف في جوهرها الكيفية التي تتحقق بها أدبية الأدب وإمكان وضع علم خاص به يتناول فروعه ، ويمكن أن يُطلق عليه اسم علم الأدب أو ( البويطيقيا ) ، ولكن هذه الحقائق أهملت وتجاوزها المؤرخون لأنهم أنجرفوا وراء فكرة ثانوية وهي أن قدامة تأثر بالفلسفة اليونانية ، وكان مذهبه في تناول الأدب عقلانياً ومنطقياً وبعيداً عن روح الشعر وكان ذلك في مجمله بهدف التقليل من أهمية سابقته " ([11]) .
          ألم يكن الوعي الفلسفي أفقاً مجهولاً ارتاده رُوًّاد الحداثة النقدية العربية ؟ ألم يكن المجتمع العربي – آنذاك – يمد الخطي نحو الحداثة بشروطها التي تبين في قول آلان تورين Alain Touraine  : " إن حداثة مجتمع تقاس بقدرته علي حيازة الخبرات الإنسانية البعيدة عن تجربته الحاضرة في الزمان وفي المكان "([12]) لكن حداثة اليوم ليست كحداثة الأمس وسوف أفصح عن آليات الاختلاف لاحقاً إن شاء الله تعالي .
          إن الحداثة النقدية العربية المبكرة اهتدت إلي التنظير من خلال وعيها بالفكر الفلسفي اليوناني ؛ لأن التنظير لم يكن مألوفاً في نقدنا العربي القديم ، وقد أشار الدكتور صفوت الخطيب إلي علة ندرة المنهج النظري وشيوع المنهج التحليلي في قوله ، لقد كان طغيان ظاهرة الميل إلي التحليل ، والارتباط بالنموذج والمثال في معظم كتب النقد العربي القديم ، ناشئاً – فيما نري – عن غياب الفكر الفلسفي ، وعن افتقاد التحمس له – إن وجد – أحياناً "([13]).
          لذلك كان للفكر اليوناني عامة ، والأرسطي خاصة فضل في تنبيه العقل العربي إلي التنظير ، لكن الناقد العربي الحصيف لم يدع فرصة لهذا الفكر الوافد لكي يسطر سيطرة تامة علي هوية الفكر العربي ، ولم يكن مفكراً تابعاً أو منقاداً ، بل طور فكراً عربياً ننظرياً ، وصل في بعض مراحله إلي التفوق علي النموذج الأرسطي في النقد النظري ، كما يُحسب لهذا الفكر العربي النظري أنه استمد أسسه وقواعده من نماذج الإبداع العربي ، فجاء فكراً معبراً عن هوية الأمة لا متنكراً لها .
          هذا الفكر هو الفكر البلاغي العربي ، الذي أثر أثراً بالغاً في أن يبني التنظير النقدي أسسه معتمداً علي قطبين رئيسين هما الفكر الفلسفي الأرسطي ، ومنجزات العقل العربي لغة ونقداً وفلسفة ، فقد : بدأت نظرية النقد العربية تدخل مرحلة جديدة باتجاهها نحو الفكر البلاغي ، ذلك أنه إذا كان النحوم هو الذي يحكم نظام العلامات ، وإذا كانت نظرية الأدب هي التي تحدد الكيفية التي تبني عليها الأعمال الأدبية ، فإن النظرية البلاغية هي التي تأخذ سائر العناصر في اعتبارها سواء كان ذلك يختص بالمؤلف ، أو المرسل ، أو العمل الأدبي ، أو الواقع الثقافي والاجتماعي واللغوي ، أو بالمستقبل فالبلاغة هي فن استخدام اللغة في الواقع العملي سواء كان ذلك علي المستوي الاتصالي المرجعي ، أم علي المستوي الأدبي "([14]) .
          يُعد كتاب أسرار البلاغة للشيخ الإمام أبي بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني ( ت 471 هـ أو 474 هـ ) – بما يحمل من فكر بلاغي ذي أصول عربية ويونانية – مرحلة متطورة في حداثة التنظير النقدي العربي ، حيث بدأت تتكون لديه أركان النظرية النقدية مجتمعة في حديثه عن نظرية النظم ، وأول هذه الأركان فهمه لمستويات الأداء اللغوى ،حيث أعطي الميزة والفضل لصنف من الكلام دون صنف ، وهو الكلام المبني خطابه علي التصوير ، حيث يقول في أسرار البلاغة ، إن من الكلام ما هو شريف في جوهره كالذهب الإبريز الذي تختلف عليه الصور وتتعاقب عليه الصناعات وجُلُّ المعَوَّل في شرفه علي ذاته ، وإنْ كان التصوير قد يزيد في قيمته ويرفع من قدره ، ومنه ما هو كالمصنوعات العجيبة من مواد غير شريفة ، فلها – ما الصورة محفوظة عليها لم تنتقض ، وأثر الصفعة باقياً معها لم يبطل – قيمة تغلو ، ومنزلة تعلو ، وللرغبات إليها تصباب ، وللنفوس بها إعجاب ، حتي إذا خانت الأيام فيها أصحابها ، وضامت الحادثات أربابها ، وفجئتم فيها بما يُسلبها حسنها المكتسب بالصنعة ، وجمالها المستفاد من طريق العرض ، فلم يبق إلا المادة العارية من التصوير والطينة الخالية من التشكيل – سقطت قيمتها وانحطت رتبتها "([15]) .
          وقد بحث  الدكتور عبدالعزيز حمودة إستناداً إلي خبرته بالآداب والثقافات الأوروبية في هذه النظريات الغربية ، وتبين له أن كثياً من مقولات المنظرين الغربيين الحداثية تتفق مع آراء عبدالقاهر وغيره من البلاغيين العرب القدماء تنظيراً وتطبيقاً ([16]) .
          وإضافة إلي ما قاله الدكتور / حمودة حول تأصيل الفكر البلاغي لعبد القاهر – فإن الأساس النظري الذي قامت عليه الدراسات الأسلوبية الغربية الحديثة هو إقتناء فكرة أن الأسلوب الإبداعي يحمل مقومات صاحبه ، ولا يجتمع أسلوبان لمؤلفين مختلفين في نص واحد .
          وفي تطور ملحوظ للدراسات الأسلوبية ظهرت الدراسة الأسلوبية الإحصائية التي تعتمد الفكرة السابقة في تشخيص الأساليب وتوثيق النصوص الأدبية ، وإثبات أو نفي صحة نسبتها إلي أصحابها ([17]) ، وفحوي السمات الشخصية للأسلوب ، يقول بها جورج بوقون Georges Buffon   حيث يري أن الأسلوب هو طريقة لصياغة الأفكار ، ووسيلة في الكتابة والإبداع ، يقول بوقون : " ليس الأسلوب إلا النظام والحركة اللذين يضع المرء فكرة في إطارهما "([18]) .
          مثل هذه المعاني التي توصل إليها جورج بوقون وغيره من علماء الأسلوب الغربيين ، أشار إليها عبدالقاهر الجرجاني من قبل ، فهو يقول عن البيان الذي لا يقوم باللفظ وحده ، فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراًُ أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول :خلو رشيق  ، وحسن أنيق ، وعذب سائغ ، وخلوب رائع ، فأعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلي أجراس الحروف ، وإلي ظاهر الوضع اللغوي ، بل إلي أمر يقع من المرء في فؤاده ، وفضل يقتدحه العقل من زناده "([19]) .
          وتبدو عبقرية الحداثة النقدية التنظيرية عند عبدالقاهر في قدرته الرائعة علي تأصيل الفكر اليوناني الوافد – خاصة الفكر الأرسطي – في الثقافة العربية ، فلم تكن حداثة عبدالقاهر متأثرة تابعة ، محتقرة لتراثها متقاطعة معه ، بل كانت حداثة تعرض الفكر الوافد علي ثقافتها القوية وتعمل عل يتطويعه بل والإضافة له، حتي يبدو في النهاية متفوقاً علي الأصل الذي أتي منه ، وخير مثال علي ذلك هو تعامل عبدالقاهر الجرجاني مع نظرية المحاكاة الأرسطية .
          يقول الدكتور عبدالعزيز حمودة واصفاً جهد عبدالقاهر في تأصيل نظرية المحاكاة الأرسطية في الثقافة العربية : إننا أمام رجل علي دراية كاملة بمفهوم المحاكاة الأرسطي ، ولا يمكن لقارئ أن ينكر ذلك وهذه حقيقة تؤكدها مصطلحات مثل ( التصويرات ) و ( التخييلات ) وفي الوقت نفسه فإن المحاكاة التي يتحدث عنها عبدالقاهر هنا خرجت من دائرة المفهوم الأرسطي إلي دائرة النقد الجديد الذي يري لمحاكاة إبداعاً كاملاً ، فنحن في تعاملنا مع نظرية المحاكاة الأرسطية عادة نجهد أنفسنا ، ونقدح فكرنا ، ونلجأ إلي الكثير من التأويل والتحميل وقراءة ما بين السطور ، لنثبت أن المحاكاة عند أرسطو لا تعني إعادة إنتاج الواقع في سلبية ، ولكنها تعني أيضاً قدراً محدوداً من الإبداع ، وليس الأمر كذلك مع عبدالقاهر الجرجاني الذي يقدم تفسيراً بالغ العصرنة للأدب كإبداع كامل ، كأن الرجل بعد أن تعرف علي محاكاة أرسطو نظر إليها في مسافة نقدية كانت كافية لإعادة تفسيرها كإبداع كامل . ولماذا نقول إعادة تفسيرها ) ؟ إننا إمام نظرة عربية بالغة العصرنة للمحاكاة باعتبارها إبداعاً "([20]) .
          بهذا الجهد النقدي التنظيري الذي قدمه عبدالقاهر الجرجاني ، تتشكل ملامح الحداثة النقدية التنظيرية عنده في ثلاث نقاط : تطوير الفكر العربي ليصبح فكراً موازياً للفكر اليوناني ، بل متفوقاً عليه في كثير من القضايا ، وعدم تحقير التراث البلاغي والنقدي السابق وإزدراء منجزاته ، والحفاظ علي الهوية النقدية العربية فلا تمُحي معالمها وتذوب في هوية الآخر . فكانت - بذلك –حداثة ابتداع لا حداثة اتباع .
          وتصل حداثة الإبتداع ذروتها علي يد صاحب المنهاج ، حازم القرطاجني (ت 684 هـ) فتكتمل عنده مكونات النظرية النقدية العربية ، وقبل أن أوضح ملامح حداثة القرطاجني النقدية ، من خلال الكشف عن الوعي النقدي التنظيري عنده ، أحدد أولاً مصادر حازم القرطاجني .
          أفاد حازم من الفلاسفة المسلمين الذين شرحوا ترجمات أرسطو ومنهم الكندي والفارابي وابن سينا ، وهذا هو الأصل اليوناني في مصادر حازم ، أما الأصل العربي فيتمثل في جهود النقاد العرب النظريين في القرن الرابع الهجري ، مثل قدامة بن جعفر وابن طباطبا العلوي ، وفي القرن الخامس الهجري عبدالقاهر الجرجاني ، فإلي أي من الأصليين كانت تميل غزارة الإفادة النقدية ، وهل كان حازن مفكراً متقاداً أم مفكراً مبتكراً ؟
تكمن أهمية كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم في اهتمامه بعلم الشعر أكثر من الاهتمام بعلم البلاغة ،وتبدو أهميته أيضاً في كونه يجمع بين دفتيه جهداً تنظيرياً ، يكاد يصل به إلي أن يكون أفضل كتاب يناقش قضيةالتأصيل النظري لعلم الشعر العربي في تراثنا النقدي ، كذلك تبدو أهميته في براعة التقسيم والتبويب ، وتوزيع القضايا النقدية علي الأقسام والأبواب ، وقد حدد محقق المنهاج الموضوعات التي يري أنها الموضوعات المحتملة للقسم الأول المفقودة ،يقول : " في كلام حازم نفسه إشارات عديدة إلي موضوعات هذا القسم المفقود فهو يتناول بالبحث القول وأجزاءه ، والأداء وطرقه ، والأثر الذي يحصل للسامعين عند صدور الكلام "([21]) ، أما الأقسام الثلاثة الباقية فقد بحث فيها حازم – علي الترتيب – المعاني والمباني والأسلوب .
ويشير محقق المنهاج إلي منهج حازم في تقسيم الكتاب ، فيقول : " وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة موزع إلي أربعة أبواب ، أطلق حازم علي كل واحد منها اسم منهج ، ثم جعل المناهج أو الأبواب متألفة من فصول دعاها إلي التعاقب بمعلم أو معرف وهو يتبعها غالباً بملاحظات بلاغية يجمعها في فصول ختامية ، يعنون لها بمأم أو مآم علي الأفراد أو الجمع ، هذا وقد جعل فقر المنهاج متمايزة هي أيضاً في كل فصل من فصول الكتاب فعنون لها بلفظين علي التعاقب إضاءة وتنوير ([22]).
هذا النوع من التقسيم والتفريع المبني علي التسلسل من العام إلي الخاص ، ومن الأصول إلي الفروع لم يكن أمراً مألوفاً في التأليف العربي ، لكنه مأخوذ من الفكر الفلسفي اليوناني الذي أطلع عليه حازم من خلال شروح الفلاسفة لأرسطو ، لكن الذي يحسب لحازم أنه أستطاع – بدقة بالغة – توزيع أفكاره ومادته العلمية علي هذه الأقسام ، فكأنه استعار الشكل ، وصب فيه المضمون ، فأين موقع الفكر البلاغي العربي من هذا المضمون ، وهل كان للفكر اليوناني عامة – والأرسطي خاصة – موقع في هذا المضمون ؟
في إشارة مهمة لمصادر حازم ، يصف الدكتور صفوت الخطيب موطن إفادة حازم من التراث اليوناني ، إذ يقول :"إن حازماً لم يفد من التراث الفلسفي اليوناني ، ممثلاً في الترجمات القديمة لأرسطو، وفي شروح الفلاسفة المسلمين إلا مسألة التنظير في المقام الأول ، فهو يفترق فيها عن المحاولات المعروفة عند ابن طباطبا وقدامة وعبدالقاهر ، فإن هذه المحاولات قد افتقدت الإحاطة بموضوع الشعر ، أسسا وتركيباً عاماً  ، كما أنها افتقدت النظرة الشمولية التي تساهم في ربطأجزاء البناء التنظيري كله ..أما القضايا التي عالجتها هذه النظرية ( يقصد نظرية حازم ) فإن حازماً قد رجع فيها إلي مصدرين ؛ أولهما وأهمهما مراجعة النصوص الشعرية العربية نفسها واستنباط ما تقوم عليه من قوانين ، وآخرهما بعض الإشارات النقدية التي أمكن تلمسها في كتابات النقاد العرب قبله ، والتي كانت غارقة – في مجملها – في الميل إلي التطبيق أكثر من التنظير ،ومع ذلك فإن حازماً قد استطاع أن يفيد بقراءة التراث الفلسفي في إحكام هذه القضايا من ناحية وفي القدرة علي استنطاق النصوص الأدبية والقدرة علي التنظير لها ، من ناحية أخري .([23])
تبدو عبقرية حازم في أنه أكمل شيئاً غير متأصل في الذات العربية ،وهو القدرة علي إفراغ الفكر الأصيل في قوالب تنظيرية ووصفي للفكر بإنه أصيل ليس إدعاءً لأن القضايا النقدية التي ناقشها حازم في منهاجه هي قضايا الشعر العربي ، وليست قضايا التراجيديا أو الكوميديا ،وأكبر الظن عند الباحث أنه قد لايبعد كثياً عن الحق حين يقول أن حازماً قدم نظرية نقدية في الشعر العربي ، لا تقل مكانة عن النظرية التي قدمها أرسطو في المسرح اليوناني " الثابت أن منهاج البلغاء يمثل أفضل ما أفرزه العقل العربي في مجال النقد الأدبي ، وأنه بالرغم من كل التناقضات والتداخلات ، يقدم نظرية عربية في الأدب تتناول في تفصيل غير مسبوق عملية الإبداع وشروط تحققها وآلياتها وطبيعتها بين المحاكاة والإنشاء أو الخلق ، ووظيفة الأدب ، ووظيفة اللغة ، وقضايا الموهبة والتقاليد والشكل والمضمون والتحليل اللغوي للنص ([24]) .
وقد جري حازم القرطاجني مجري عبدالقاهر الجرجاني وحذا حذوه في تأصيل مقولات الفكر اليوناني عامة – والأرسطي خاصة – الوافد في الثقافة العربية ، ويبدو ذلك – جلياً – في درس الأول لقضية المحاكاة ، وأهمما يميز القرطاجني هو اختلاف منهجه – في النقل والتأصيل – عن منهج شراح أرسطو من الفلاسفة المسلمين ، وقد حدد الدكتور صفوت الخطيب طبيعة هذا الاختلاف وأسبابه في قوله ، وعلي الرغم من أن محاولات ابن سينا وابن رشد تفسير بناء الشعر العربي من خلال بناء الشعر اليوناني باطلة من أساسها ؛ لاختلاف طبيعة الشعرين ، إلا أنها فيما سبق من نقاط ( يقصد النقاط التي درسها الفلاسفة ومنها الأسس الجمالية في تركيب العبارة العشرية يمكن أن تكون مقبولة إذا أخذ منها ما يخص علم الشعر المطلق ، أما أن تؤخذ علي أنها تطبيق لهذا البناء علي الشعر العربي فهذا هو الخطأ الفاحش والذي يبدو علي نحو جلي في فهم ابن رشد للعقدة والحل في الشعر المسرحي ومحاولته التطبيق علي الشعر العربي ... وعلي عكس هذه الطريقة كان تناول حازم لبناء الشعر فهو وإن أفاد من التراث الفلسفي المنهج أو طريقة التقسيم المنطقية إلا أنه اضطلع بالتنظير لبناء الشعر العربي علي أساس من استقرائه ([25]) .
وغير هذا المنهج – في النقل والتأصيل – تفتقت إمكانات حازم وبرزت مهاراته اللغوية والبلاغية في استقراء نصوص التراث العربي أدباً ونقداًَ ، مستنبطاً منها الأسس التنظيرية التي أعتمد عليها في صياغة نظريته للشعر العربي الغنائي  ، وفهم من خلالها الفكر اليوناني الوافد ، والأمثلة علي ذلك كثيرة ، منها أن حازماً بعد أن قرأ تلك النصوص ، وضع حداً للشعر يظهر فيه مدي تأثره بالجهود النقدية السابقة عليه ، وكذلك يظهر فهمه لمصطلح المحاكاة الأرسطي .
يقول حازم : " الشعر كلام موزون مقفي [ في هذا تذكير بما قاله ابن طباطبا العلوي ، وقدامة بن جعفر ] من شأنه أن يحبب إلي النفس ما قصد تحبيبه إليها ، ويكره إليها ما قصد تكريهه ، لتحمل بذلك علي طلبه أو الهرب منه ، بما يتضمن من حسن تخييل له ، ومحاكاةمستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام ( وفي هذا تذكير بنظم عبدالقاهر ) ، أو قوة صدقه أو قوة شهرته ، أو بمجموع ذلك ، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب ، فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها .([26])
لم يكن الشعر –يوماً من الأيام – نقلاً حرفياً لما هو كائن ؛ لأن الشعر ليس كالتاريخ ؛ فوجه الأختلاف بينهما كائن في إحتواء الأول علي عنصر الإبداع . وحين يصف القرطاجني الشعر بأنه ( يحبب إلي النفس ما قصد تحبيبه إليها ، ويكره إليها ما قصد تكريهه ) ، بما فيه من المحاكاة والتخييل ، فهو بذلك يدرك الطبيعة الإبداعية للمحاكاة ؛ لأن الشاعر لايقدم الشئ المحاكي كما هو أو كما كان، لكنه يقدم الشئ المحاكي في صورة مبتدعة وليست مقلدة . وهذا ما كان يقصده أرسطو من المحاكاة الشعرية .
ولكن هذا لا يعني أن حازماً كان مجري ناقل للفكرة دون أن يصيغها بفكره البلاغي الذي تخَمَّرفي ذهنه من مطالعاته لمنتجات العقل العربي إبداعهاً ونقداًَ ، بل ذلك قد كان ، ويؤكده اختلاف هدفه عن هدف أرسطو في القول بفكرة المحاكاة، وفئات المادة التي تحاكي ، يقول الدكتور عبدالعزيز حمودة ، " يتفق [حازم] مع أرسطو في أن الشاعر يتعامل مع ما هو ممكن أو محتمل حدوثه ، وإن كان الهدف يختلف عند الأثنين . ففي حديثه عن محاكاة الشاعر للممكن أو المحتمل كان هدف أرسطو هو تأكيد الاختلاف بين الشعر والتاريخ الذي يتعامل مع ما حدث أو يحدث . أما حازم فيفضل التعامل مع الممكن أو المحتمل بسبب حسن الموقع في النفوس . فهو يري أنه كلما توفرت دواعي الإمكان كان الوصف أوقع في النفس وأدخل في حيز الصحة . ويختلف مع أرسطو في الوقت نفسه أولاً في توسيع مظلة الممكن أو المحتمل لتغطي كلاً من المحتمل الأرسطي والممتنع ، ثم يضيف فئة ثالثة في وصفه للمعاني أو المادة الأولي وهي الاختلاف الاستحالي [ يعني به ما هو غير ممكن في عالم الواقع ، ولا يمكن مجرد تصوره عقلياً ] وهي إضافة فرضتها طبيعة التراث العربي ذاته والذي خلا من الأساطير ([27]) .
والاختلاف الاستحالي يعني الابتداع الاستحالي ، وقد رفض حازم أن يكون هذا النوع مادة للشعر ، حيث : " وجد العقل العربي صعوبة في تقبل الأساطير اليونانية التي سماها خرفات مستحيلة الحدوث ، ولم يستطع أن يفهم كيف وضعها العقل اليوناني المبدع داخل دائرة الاحتمال أو الإمكان . أي أنه في الوقت الذي عارض فيه أرسطو بين ما هو ممكن أو محتملا (مادة الشعر) وبين ما هو كائن أو كان بالفعل (مادة التاريخ ) ، عارض فيه حازم بين ما هو ممكن أو ممتنع ( مادة الشعر – وإن كان فضل الأول ، ولم يستبعد الثاني ) من ناحية ، وبين ما هو مستحيل ( وقد رفضه مادة للشعر ) ، من ناحية ثابتة ([28]) .
هكذا كان منهج حازم في تأصيل الفكر اليوناني الوافد متمثلاً في إخضاع هذا الفكر لطبيعة العقل العربي ، والممارسات الشعرية العربية ، ثم قبل ما اتفق معهما من هذا الفكر وعمد إالي تطويره ، ورفض ما اختلف معهما مقدماً مبرراته، فكان بذلك خير مثال لم يقدم فكراً عربياً موازياً للفكر الأجنبي الوافد – بل متفوقاً عليه – في مجال التنظير للإبداع الأدبي ، وموطن سر التفوق هو أن حازماً وقف أمام تلك القضايا الوافدة وقفة الناقد – لا رجل الفلسفة – الواعي دائماً بطبيعة الشعر العربي ، والمدرك أبداً لمنجزات النقد العربي السابق عليه ، دون أن محتكراً لهما ، أو تابعاً – ملغياً لعقل – للفكر اليوناني .

1/ب -2 : هكذا كان مآل حداثة الأمس ، فكيف ولدت حداثة اليوم ؟ وما الملامح التي تميزها عن حداثة الأمس ؟ وهل كانت حداثة تُقدسُ التراث وتحمي الهوية أم تتبع الآخر فتحتقر التراث وتزدري الهوية ؟ وهل أوقعت هذه الحداثة النقد العربي المعاصر في أزمة ؟ وإن كان ذلك قد وقع فكيف تتخطي هذه الأزمة ؟
          سَئمَ المثقفون العرب عامة – والنقاد منهم خاصة – ذلك الإنحدار الثقافي الذي وصل إليه العقل العربي قبيل بداية عصر النهضة ؛ فتولدت لديهم رغبة قوية وصادقة في تحديث هذا العقل ، وامتلكوا فلسفة خاصة ينحزون بها هذا التحديث ، حيث تري هذه الفلسفة أن بداية التحديث يجب أن تنطلق من ربط العقل العربي بمنجزات العقل الغربي ، ويتم هذا الربط عن طريق نقل وترجمة ما أنجزه النقاد الغربين إلي اللغة العربية ، واختلفت مذاهبهم في النقل والترجمة ، فنقل طه حسين منهج ديكارت وطبقة علي الشعر الجاهلي ، وأفاد العقاد من أفكار فرويبد ويونج في دراسته لأبي نواس .
          وهذا الجمع بين الفكرين العربي والغربي هو الذي يميز الجيل الأول من دعاة التحديث ، فلم تظهر لديهم الرغبة في تحقير التراث وهدم الماضي ، رغم الانبهار الشديد بمنجزات العقل الغربي ، ولم يدفعهم هدفهم ( تحديث العقلية العربية ) إلي الإندماج التام في العقلية الأوروبية والإرتماء في أحضانها ، ألا ما وقع من ميخائيل نعيمة في (غرباله) الذي اصدره عام 1923 م ، وكأن لهذا الإستثناء مبرراته التي حددها الدكتور عبدالعزيز حمودة في قوله : " ما أسهل أن نتحي رأي ميخائيل نعيمة جانباً بدعوي أن الرجل كتب (غرباله) في نيويورك حيث تلقي تعليماً عربياً خالصاً في المهجر الأمريكي ، وأنه من المنطقي أن يصدر حكمه علي إنجازات العقل العربي من هوي مسبق وتحيز جاهز ([29]) .
          وفي منتصف القرن الماضي إزداد إرسال البعثات التعليمية إلي أوروبا ، وأصبح الاتصال بالفكر الغربي عامة – والنقدي منه خاصة – أمراً ميسراً للمبعوثين العرب من الجامعات المصرية ، فأطلعوا علي المدارس الأدبية والاتجاهات النقدية ، وكأن من رواد هذا الجيل (جيل المنتصف ) محمد غنيمي هلال ، ورشاد رشدي ، ولويس عوض ، وكانوا علي دين آبائهم ، في موقفهم من التراث ، ودفاعهم عن الهوية ، فقد كان التحديث – عندهم – رغبة في إثبات الوجود ، لا أملاً في التقدم علي أكتاف في تأثر بهم من كتاب الآداب الأخري – علاقة التابع بالمتبوع ، ولا علاقة الخاضع المسود بسيدة ، بل علاقة المهتدي بنماذج ناضجة فنية وفكرية يطبعها بطابعه ، ويضفي عليها صيغة قوميته ([30]) .
          وبعد نكسية 67 فقد المفكر العربي الثقة في ذاته ، بوصفه مفكراً ومثقفاً ، وفي مجتمعه بوصفه قادراً علي خوض غمار الحروب وكبح جماح العدو ، وبناء الهوية ، وتحولت الأنظار إلي الغرب بوصفه موطناً يصح أن تحل به الثقة ، حسب رؤيتهم فكان الإرتماء في حضن الغرب هو أول منزلة من منازل ميلاد حداثة اليوم .
          ويصف الدكتور عبدالعزيز حمودة جريرة العقل العرب – عنئذ – قائلاً : " وفي مرحلة ما كان المناخ مهيأ حقيقة لإنتاج نظرية نقدية عربية أصيلة ، كان ذلك الهدف هو الذروة الطبيعية لعمليات التأثر والاستعارة التي بدأت في السنوات المبكرة في ذلك القرن ( العشرين) ، وفجأة توقف كل شئ مع الهزيمة العسكرية القاسية للعقل العربي العام 1967 .. حولنا الرغبة المحمومة في تحديث العقل العربي إلي الإرتماء الكامل ، ليس الاستعارة وليس التأثر ن بل الارتماء الكامل في أحضان الحداثة الغربية باعتبارها المخلص الجديد ، والمنقذ من الضلال ! وتحققت بالفعل قطعية معرفية إبستمولوجية حقيقية مع منجزات العقل العربي القريبة والبعيدة علي السواء ([31]) ، فكيف تحققت تلك القطيعة ، وما ملامح حداثة اليوم التي حلت محل التحديث في مطلع العقد السابع من القرن العشرين ؟
          إن الشئ الذي يمكن أن توصف به دعوة الجيل الأول من الحداثيين جيل العقد السابع – أنها دعوة تجمع بين النية الحسنة الصادقة وبين العجلة في صعود قطار الحداثة ، أما النية الحسنة فتكمن في رغبتهم المتمثلة في إنقاذ الحلم العربي من الضياع ، وإعادة الثقة إلي الأمة العربية في ذاتها . أما العجلة في صعود قطار الحداثة فقد دفعت ، رواد هذا الجيل إلي متاهة فكرية ، أهم ملامحها ، عدم التفريق بين حداثة غربية عسكريبة ، وحداثة غربية نقدية ، أو في البداية فلسفية ، وعدم إدراك الأسس المعرفية والظروف المجتمعية التي نشأت في أرحامها براعم الحداثة الغربية ، ثم في النهاية عدم الوعي بطبيعة الاختلاف بين الأدبين العربي والغربي مزاجاً ، وآلية ، وذائقة .
          والشئ الممتع الآسر حقاً هو أن يكرس المرءُ جهود لبناء حلمه الذي فُقد ، ولغرس أرضه التي أسمت خاوية علي عروشها ، لكن السيل إلي ذلك لا يكون كما فعل جيل الرواد الحداثيين – بالتنكر للتراث وهجر الماضي ، وعدم الاعتضاد برؤي الأقدمين ؛ لأن في ذلك قتلاً للحلم الذي فقد .
          فلم يدرك جيل الرواد من الحداثيين هذه الإشكالية عندما نقلوا وترجموا منجزات الحداثة الغربية ، فجاءت قراءة رواد هذا الجيل للاتجاهات النقدية الغربية – كالبنيوية مثلاً – قراءة المنقطع عن الماضي ، المنبت عن الأصل ، فلم تقرأ هذه الاتجاهات في ضوء طبيعة الإبداع العربي ، ولم يؤطر لها نظرياً في ضوء الإنجازات التراثية النقدية التي حققها العقل العربي ، فليت فعلهم كان كفعل حازم عندما قرأ أرسطبو مترجماً .
          وهذه القراءة – التي بين الباحث ملامحها – أصابت نتائج أصحابها – التنظيري والتطبيقي – بدرجة من درجات الغموض والاستغلاق وأضر مثالاً علي ذلك من دراسة الدكتور كمال أبو ديب ، وعنوانها ( الرؤي المقنعة ، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي ) ، وهي دراسة يطبق صاحبها منهجاً حداثياً غربي المنشأ علي شعر عربي قِيلِ مشافهة قبل ما يزيد عن ثلاثة عشر قرناً من ميلاد البنيوية ، يقول الدكتور أبو ديب في تحليل بنية معلقة امرئ القيس : نري في القصيدة الشبقية ( يقصد المعلقة ) مظهراً آخر من مظاهر البنية المفتوحة .. إذ تتحرك البنية المفتوحة هنا بطريقة دائرية ، فيتولد عن كل دائرة دائرة أخري ، وكما يبدو في النهاية فإننا نفاجأ ببدء سلسلة أخري من الدوائر ترتبط كل دائرة منها ارتباطاً عمودياً بالدائرة التي تليها ، ولكنها ترتبط أفياً كذلك بالدائرة التي تتفق معها في الانفجار السابق للدوائر ، وتشكل أحيانا ما يكون أساساً نوعاً من الوحدة التكوينية الكلية .. ونستطيع نظرياً ، أن نضيف سلسلة أخري من الدوائر في النهاية ، ولكن ذلك لن يحدث ؛ لأن الدائرة الأخيرة لها وظيفة ارتباطها بما يلي :
1-      الدوائر السابقة عليها في حركتها الخاصة .
2-      الدائرة الأخيرة في الحركة السابقة .
3-      الدائرة الأولي في القصيدة .
وهكذا نحصل علي الأشكال التالية([32]):






          يرفع من شأن النص الإبداعي حاجة المتلقي إلي أعمال العقل لفهمه ، وكما قال عبدالقاهر الجرجاني ، هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعني إلي الفكر في تحصيله ، فهل تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك ، ونشر بزه لديك ، قد تحمل فيه المشقة الشديدة ، وقطع إليه الشقة البعيدة ، وأنه لم يصل إلي دره حتي غامي ، ولم ينل المطلوب حتيب كابد منه الامتناع والاعتياص ؟ ومعلوم أن الشئ إذا عُلم أنه لم يُنل في اصله إلا بعد التعب ، ولم يدرك إلا باحتمال النصب ، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلي تعظيمه ، وأخذ الناس بتفخيمه ، ما يكون لمباشرة الجهد فيه ، وملاقاة الكرب دونه ([33]) .
          ويغض من شأن النص النقدي إستغلاق ألفاظه ، وأضطراب معانيه ، وغموض مقاصده ، وغياب مراميه ، وفي قراءته كد ونكد ، وإن حل الصبر والجلد ، وفي فهمه عراك مع العقل ، وصراع مع الذاكرة ، وفي محاولة تطبيقه التلظي باللهب ، وقذف الإبداع بالشهب ، وتحميل النص ما لا يطبق ، ووسم المبدع بما في حقه لا يليق .
          وأوجز ما يُقال عن الجيل الأول من الحداثيين أنهم تعاملوا مع الأصول الأجنبية مباشرة في لغتها الأصلية ، فجاءت منتجاتهم النقدية التنظيرية والتطبيقية يشوبها الغموض والاستغلاق ، فما بالنا بما أنتجه روَّاد الجيل الثاني والثالث من الحداثيين ( أقصد جيل العقد التاسع وجيل العقد الأخير من القرن العشرين ) ؟ لاشك أن كثيراً من رواد هذين الجيليبن قد تعلم حداثة النقد من منتجات جيل الرواد وبذلك قد ابتعد عن المصادر الأصلية درجتين أو ثلاث درجات ؛ ولهذا فلا أستبعد زيادة الغموض وكثرة الاستغلاق في كتابات الجيل الثاني والجيل الثالث ، وفي توالي الأجيال تزداد الأزمة .
          وتفشت في كتابات رواد هذين الجيلين أمراض أخري – بجانب مرض الغموض- يحددها الدكتور حمودة في قوله : " وقد انتهي بنا المطاف ، في السنوات الأخيرة من القرن العشرين ، إلي زحام هو أقرب إلي الفوضي منه إلي أي شئ وآخر في المفاهيم والمصطلحات النقدية كان نتيجة طبيعية لفتح ثقافة واحدة، هي الثقافة العربية ، أمام حداثات متعددة ، غربية وشرقية ، دون إدراك الاختلافات الجوهرية بين الثقافة العربية وتلك الثقافات المستوردة وزاد الطين بلة أن عمليات النقل عن العقل الغربي ، كانت تتسم في أحيان كثيرة بالغموض والتشوش  بل سوء الفهم أما ثالثة الأثافي ، فقد كانت ضيعتنا الكاملة بعد القطيعة المعرفية مع التراث العربي في مواجهة فوضي المصلطح النقدي "([34]) .
1/ب – 3 : ودخل النقد الأدبي العربي القرن الواحد والعشرين وهو يعيش أزمة حقيقية ، فما ملامحها ؟ ومن المسئول عن انحدارنا في بئر هذه الأزمة ؟ وكيف تتخطاها ؟
          هناك رافدان يُصبان في رافد ثالث – ولكل واحد منهم خصال بها يُعرف ، وسمات بها يوصف – وعلي الثلاثة تتوزع آفات الأزمة التي يعيشها الخطاب النقدي الآن ، فالأول رافد التأسيس التنظيري ، والثاني رافد الإجراء التطبيقي ، والأخير رافد الهوية النقدية الذي تبني ملامحه من نتاج تلقيح الأول بالثاني .
          أما آفات التأسيس التنظيري التي شكلت أزمة الخطاب النقدي العربي الحديث في جانبه النظري ، فأولها : الغموض والتشويش والاستغلاق الذي صار سمتاً – بل ديدناً – في كتابات الحداثيين أساتذة وتلاميذاً  ،وتلاميذ التلاميذ ،وقد أشار الباحث – آنفاً – إلي نموذج الدكتور / صلاح فضل للتدليل علي هذه الآفة – ويرجع هذا الغموض إلي سوء النقل ، وعدم دقة الترجمة ، وثانيهما : شيوع الفوضي في فهم المصطلح النقدي ، وهذه الآفة لم تعد أمراً يُستهان به ، بل تفشت وصارت تشكل أزمة مستقلة تُسمي أزمة المصطلح النقدي ، والسبب الرئيسي في تلك الأزمة هو أن دعاة الحداثة ينقلون المصطلح بما يحمل من إشكاليات تعود إلي القيم المعرفية والظروف المجتمعية التي نشأ خلالها هذا المصطلح ، ثم يحاولون زرعه في البيئة العربية التي لا تتوافر فيها القيم المعرفية ذاتها ، والظروف المجتمعية عينها ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري التباين الشديد بين المترجمين في ترجمة المصطلح لفظاً ومفهوماً ، وثالثهما : النقل غير الواعي وغير المنظم عن الحداثة الغربية ، يقول الدكتور / عبدالله ابراهيم واصفاً هذه الآفة : " وأصبح الأخذ غير المنظم ، وغير الواعي عن الآخر ، هو السمة التي طبعت الفكر العربي الحديث ، في مظاهره المختلفة ، والنقد الأدبي في مقدمتها ، وبدأت الموارد المنهجية للآخر تفرض حضورها بوصفها وسائل تحديث وأصبح النموذج الغربي في ميدان الفلسفة والأدب ، هو المعيار القياسي وبدأ الناقد العربي ، يخوض في جدل واسع لإستخلاص نموذج من نموذج لآخر معتقداً بأنه حقق ما لا سبيل إلي تحقيقه وهو أمر نجد تجلياته في شتي ميادين الثقافة العربية الحديثة،التي بدا وكأنها تتشكل بوصفها مجموعة أصداء لثقاف الغرب في  مجالات المعرفة والإبداع ([35]) .
          ورابعها خطورة نقل الأفكار النظرية الحداثية التي تتعارض مع مبادئ العقيدة الإسلامية وأسس التشريع مثل : إزاحة المقدس ، وتمزيق المركزيات ، ورمي الحقيقة في صندوق النسيان ،وأتساع دائرة الشك المطلق ، يقول الدكتور حمودة : " ففي مرحلة سابقة ( قبل البنيوية ) حدثت قطيعة معرفية تمت فيها إزاحة المقدس من مركز الوجود ليحل محله العلم والعقلانية ،أما في المرحلة الأخيرة ، فقد أزيح العقل لتحل محله اللغة ، سواء في المشروع البنيوي أو إستراتيجية التفكيك ،وهي أزاحة ارتبطت في الفكر الفلسفي الغربي بعملية التفتيت والشرذمة بعد فترة طويلة كان الفكر الإنساني في أثنائها يري الوجود وحد متكاملة تجمع بين المقدس والكون والإنسان واللغة ، من دون التفتيت لم تكن عمليات الإزاحة والإحلال ممكنة ... أما في مرحلة ما بعد الحداثة الأخيرة فقدأختلطت الأشياء بعد أن أصبح الشك المطلق هو الحقيقة الوحيدة الباقية " ([36]) .
          أما آفات رافد تطبيق المناهج النقدية الحداثة والما بعد حداثية علي الإبداع العربي ، فتأتي في مقدمتها آفة الغموض الذي يصل إلي حد أن المبدع لا يفهم ما يقال حول ما أبدعه ، وكذا القارئ المتخصص فضلاً عن القارئ العادي الدكتور كمال  أبو ديب للتمثيل علي ذلك ولم يكن شيوع الغموض مقتصراً علي الكتابات النقدية التي أعتمد أصحابها علي تطبيق المنهج البنيوي فقط ، بل اتسعت دائرة الغموض أيضاً لتشمل الدراسات النقدية التطبيقي التي أتجه أصحابها إلي المنهج الأسلوبي الاخصائي ، حيث تجد زحماً يملأ صفحات هذه الدراسات من الجداول الإحصائية الرقمية والرسومات البيانية ، بشتي أصنافها الخطية والعمودية والدائرية فالقارئ لا يفهم مقصد الناقد ،كما يحول مهمة النقد من السعي وراء الكشف عن أسرار جماليات النص الأدب الأسلوبية والبلاغية إلي حصر عدد الجمل الطويلة والقصيرة ،أو عدد حروف العطف ، أو عدد المركبات المجازية وغير المجازية ، وإن لم يكن لهذا الحصر هدف يُكشف به عن مواطن الجمال الفني ، ومنازل البهاء الأدبي في النص فإنها يصبح – بتلك الصورة – نمطاً من العد الحسابي اليدوي الذي يختلف عن الإحصاء الهادف الذي يبين معالمه ومراميه وأسس إجرائه في دارسات الدكتور / سعد مصلوح (*) .
          أما الآفة الثانية فهي تبني الأفكار المنهجية التي اعترف منشؤوها بعدم جديتها في فهم النص الأدبي ، بل وسقطت في بلادهم ومنها فكرة علمية النقد ، يقول الدكتور  حمودة كان الشك في علمية اللغة وعلمية التحليل اللغوي البنيوي للأدب ، بل نفي تلك العلمية قد بدأ بالفعل داخل معسكر ما بعد الحداثة الغربي ، بدأ قبل أن يرفع الحداثيون العرب ، خاصة حداثيي الثمانينيات ، العلمية  شعاراً لهم بسنوات طويلة ، والواقع أن رصد مواقف الحداثيين العرب يظهر إزدواجي وربما ثلاثية لافتة للنظر ففريق البنيويين استمر في تمسكه بشعاره المبدئي ، علمية النقد ، تأسيساً علي علمية التحليل اللغوي علي الرغم من أن عصر الشك الكامل داخل الثقافة الغربية كان قد أصاب شعار العلمية في مقتل ، وفريق ما بعد الحداثيين الذين تبنوا بعض مقولات إستراتيجية التفكيك ، لو : إستراتيجية التفكيك ( منهجاً )تحولوا ، بالطبع ، إلي رفض العلمية واعتبارها قيداً علي الإبداع والنقد ، أما الفريق الثالث ، وهو أشد الفرق خطورة علي العقل العربي ، فهم الفئة التي تقف في منطقة وسط ، لا عن معرفة ودراية أو حتي محاولة انتقاء ذكية وصحية من التيارات المختلفة بل عن عدم فهم لما يحدث حولهم ، وهكذا تداخلت عندهم كل الاتجاهات النقدية  في خليط غريب لا هو بنيوية أو تلق أو تفكيك ولا هو أيضاً تراثية ([37]) .
          وثالثة الآفات الاعتماد علي النتائج دون التفكير في المقدمات وأقصد بالنتائج تلك المقولات النقدية التي أنتهت إليها التفكيرات التنظيرية في الغرب ، أما المقدمات فهي الهاديات إلي منطلقات التفكير وآفاقه للوصول إلي صياغة تلك النتائج ولربما كانت المقدمات نابعة من معتقدات تختلف في جوهر مع ثوابت العقيدة الإسلامية فتؤدي في النهاية إلي نتائج فكرية غير موافقة لثقافة النص الذي انتجته البيئة الإسلامية ، هذا من ناحية ومن ناحية أخري قد تكون المقدمات الهادية إلي تلك النتائج مستقرة في تراثنا ، وبشئ من التفكير اهتدي الغرب إلي النتائج بعد أن فهم هذه المقدمات في الوقت الذي تغافل فيه العرب عما تزخر به كتب التراث من إشارات لهذه المقدمات .
          فعلي سبيل التمثيل لا الحصر ، تعد فكرة المعاني المطروحة في الطريق التي قالها الجاحظ – تُعد مقدمة نظرية لفكرة أدبية الأدب ، فالجاحظ لم يكن يُعطي جودة الإبداع للمعني ، ولكن لطرائق إخراج المعني ، وهذا ما كان يمثل بذرة ميلاد نظرية النظم التي تقوم – في أساسها – علي حُسن تأليف هيئة الكلام ، فقيمة العمل الأدبي – عند الجاحظ – قائمة علي براعة تشكيل بنيته اللغوية ، ولو كان النقاد العرب المعاصرون قد فهموا مرمي الجاحظ ، لتوصلوا إلي إقامة اتجاه نقدي يُعني باللغة الشعرية وجماليات تشكلها .
          ولكن عدم الرغبة في تحمل مؤونة قراءة التراث – مطبوعاً ومخطوطاً – دفع إلي إستعارة معطيات النقد اللغوي النظرية وأسسه الإجرائية من الغرب ، بعد أن نشأ في أرضهم واستبانت معالمه التي لا تبعد كثيراً عما قاله الجاحظ وغيره من النقاد العرب القدماء .
          والآفة الرابعة تتمثل في أن سوء الفهم وغموض الترجمة للمصطلحات النقدية أصاب عملية التطبيق بعجمة استغلق النص علي إثرها ،واستبدل القارئ للنص النقدي المعاصر السخرية بالإعجاب ، والاقتداح بالامتداح  ، بعد أن تحول هذا النص من وسيلة إيضاح وإفهام إلي أداة استغراب وإبهام ، ومرجع ذلك إلي : "تبني أصحاب النقد الحداثي وما بعد الحداثي العربي مصطلح نقدي لا هو عربي ولا هو غربي ؛ لأنه من ناحية أنتقل بعوالقه المعرفية التي تختلف عن القيم المعرفية للثقافة الجديدة التي نقل إليها ،ولأنه من ناحية ثانية ، تعرض في أثناء الانتقال إلي عملية تشويه وتحريف وسوء فهم وزاد الطين بلة أننا حينما انتقلنا إلي التطبيق أو التعامل مع الإبداعات العربية مستخدمين أدوات الحداثة وما بعد الحداثة النقديتين دخلنا مرحلة الفوضي الكاملة، فالمصطلحات التي لم يتم حتي اليوم الاستقرار أو الاتفاق علي دلالات بعضها ، ثم تعرضت للتشويه والتحريف والابتسار بل سوء الفهم الواضح ، استخدمت في تحليل قصيدة / قصائد عربي لا تتحملها أو تطيقها ([38]) .
          أزمة الهوية النقدية هي الرافد الثالث من روافد أزمة حداثة الخطاب النقدي المعاصر ،وهناك علتان رئيستان تحققت بهما هذه الأزمة ؛ العلة الأولي هي الانبهار بمنجزات العقل الغربي في مجال الفكر النقدي تنظيراً وتطبيقاً ، وما تبع هذا الانبهار من تبعية غير واعية أدت في النهاية إلي الارتماء في أحضان الفكر الغربي وقبوله بحسنه وقبحه ، وجده وهزله ، دون تنقيحه وغربلته بأخذ ما يستحق الرضا وهجر ما يستوجب السخط  .
          أما العلة الأخري فهي احتقار التراث العربي في جوانبه اللغوية والبلاغية والنقدية ، والتشبث بشعار القطيعة المعرفية مع الماضي .
 فالإنبهار والاحتقار سببا أزمة الهوية النقدية العربية ، لكن ما نتائج هذه الأزمة ؟النتيجة الأولي هي عدم القدرة علي صياغة نظرية نقدية عربية ، علي الرغم من أنتهاء السبب الرئيسي وراء عدم قيام نظيرة نقدية في تراثنا العربي ، وهو ما يفصح عنه الدكتور صفوت الخطيب : " لم تنم ظاهرة النقد النظري في التراث العربي لأنه في الوقت الذي بدأت فيه هذه المحاولات كانت بذور التفكك والانقسام والضعف قد نثرت في أرض الدولة الإسلامية ، ولم يعد الأمر كما كان في القرون الثلاثة الأولي من تاريخ هذه الدولة ، وقد أدي ذلك إلي أن تصبح هذه المحاولات البارزة مجرد جهود فردية ومهارات خاصة ، لا يعضدها اتجاه ثقافي عام ولا تساندها رؤية مجتمعية مسيطرة ([39]) .
أما النتيجة الثانية من نتائج أزمة الهوية النقدية العربية فهي الإحساس بدونية الفكر ، وظل هذا الإحساس يتنافي من جيل إلي جيل ، حتي ترسخت فكرة أن القادم من الغرب هو سبيل التفوق ، ولا مانع من أخذه دون التفكير في مراميه الشيطانية ، وصار الكتاب العرب يُباري بعضهم بعضاً ،ويفاخر بعضهم بعضاً في عدد النصوص المقتبسة – في مؤلفاتهم – من الكتابات النقدية الغربية ، حتي صار التأثر تبعية ، والاستعارة أندماجاً .
وهناك تحققت النتيجة الثالثة من نتائج الأزمة وهي التبعية الثقافية ،والتبعية هنا لا تعني الأخذ المقنن المحكم ، والتأثر الذي يعتضد برؤي خاصة ، ومغزي محدد ، بل تعني الانسلاخ عن الذات ثم الذوبان في الآخر ، حتي يكتب القلم فكراً غربياً بلغة عربية ، فيقرأ القارئ العربي لغته فلا يفهمها .
يقول الدكتور عبدالله إبراهيم : "فالذات فيه [ أي الخطاب النقدي العربي الحديث ] تبع لـ (الآخر) وهي ، لا يمكن أن تنتزع شرعيتها المعرفية إلا بوساطة إعادة إنتاجها بمتطور (الآخر) ، بل لاسبيل إلي رؤية الذات إلا بمنظور (الآخر) ومن ثم فإنها ستتلون بألوان ذلك المنظور ، وصار( المعيار الغربي ) بمعطياته المنهجية ، هو الذي يُحدد (موقع الذات) و(درجة الأهمية) وهي صفة تلازم (التأثر السلبي ) ولا تليق بـ ( المثاقفة الإيجابية)([40]) .
وإذا كانت التبعية الثقافية بهذا الوصف الذي وصفه الدكتور عبدالله إبراهيم فتلك الطامة الكبري لأن التبعية ستصير بذلك هيمنة وترسيخاً للمركزية الغربية المزعومة ، فإذا كانت مركزية الذات تعني : "ميل الفرد إلي إرجاع كل شئ إلي ذاته "([41]) ، فإن الغرب يزعم هذه المركزية ويدعي حقاً أن كثيراً من نقاد الحداثة في بيئتنا العربية يرسخون هذه المركزية ويقرونها عندما يرجعون كل تقدم في مجال النقد الأدبي إلي الغرب وحده فهم بذلك يعنون علي استقرار فكرة الهيمنة الثقافية ،وتلك هي النتيجة الرابعة من نتائج أزمة الهوية النقدية .
وفي ترسيخ مفهوم مركزية الثقافة الغربية ما يجعل الحكم علي الثقافة العربية مقروناً بمدي قدرتها علي الاستفادة من الثقافة المركزية بينما الأصل في طبائع الأشياء أن قيمة الشئ تنبع من ذاته لا مما يستعيره من الآخرين ، وفي ترسيخ مفهوم مركزية الثقافة الغربية – أيضاً – حكم بالضرورة علي الثقافة العربية عامة ،والنقدية خاصة ، بأنها ثقافة استهلاك، لا ثقافة إنتاج ، وأن ما تنتجه – أو ما أنتجته – لا قيمة له في ضوء أنها  ثقافة مهمشة أو لنقل ثقافة أخذ لا ثقافة عطاء .
والجرم الكبير الذي يقترفه مستهلكو الثقافة الغربية ( بلا وعي ) ليس هو غرس فكرة الهيمنة الثقافة في أرضنا العربية ، بل هو هدم الخصوصيات،وتمزيق المسلمات ، وأنهيار الهويات ، وبذلك تقدم الأمة فريسة سهلة المنال بين أنياب العولمة ، حيث : "تعد العولمة أحد التحديات التي تقف أمام بناء المجتمعات التقليدية ؛ لأنها تحطم قدرات الإنسان فيا ، وتجعله إنساناً مُستهلكاً غير منتج ، ينتظر ما يجود ب الغب ، ومراكز العالم من سلع جاهزة الصنع ، بل تجعله يتباهي بما لا ينتجه ، فهو القادر علي استهلاك ما لا يصنعه مما يشكل لديهم قيم الاتكالية والتواكل ([42]) .
1 / ب -4 : السؤال الذي أصبح مُلحاً وضرورياً الآن – لأن الإجابة عنه تقود إلي صياغة حلول لتخطي الأزمة – هو علي من وما تقع مسؤولية الأنسياق إلي تلك الأزمة التي يعيشها الخطاب النقدي العربي المعاصر ؟ اتضح في السطور السابقة أن مستهلكي الحداثة الغربية ( جيل الروّاد وجيل التلاميذ ، وجيل تلاميذ التلاميذ) كانوا جميعاً مسؤولين عن تلك الأزمة بما اقترفوا من جريرة الانبهار التي أنتهت بالهيمنة وهم الهوية بعد أن مرت بالإدماج والتبعية ، وكذلك بما اقترفوا احتقار التراث التي انتهت بقطيعة معفية مع منجزاته التي سبق أن بينت إنها إذا طورت ونظر إليها نظرة التقديس لا الإزدراء لقادت إلي صوغ نظرية نقدية عربية يتحقق بها حلم الهوية .
وإلي جانب هؤلاء يأتي الغرب نفسه ، الذي يهدف – دوماً – إلي إنفتاح الثقافات المختلفة علي الثقافة الغرية ، ليس بغرض الإفادة الحقيقية التي تنتج عن طرائق التأثير والتأثر ، ولكن بغرض إبهار أصحاب تلك الثقافات بما يمكن أن تقدمه لهم الثقافة الغربية من آليات تعين علي التطور الثقافي والتقني ، وإن كان هذا – في حقيقته – وهما ، وأكبر دليل علي ذلك أن النقد العربي الحداثي ظل – طيلة ما يقرب من خمسة عقود متالية – ينهل من معطيات الثقافة الغربية عامة والنقدية خاصة ، ولم يصل ولن يصل إلي تطور حقيقي ، بل كل ما حققه لا يُعد إلا تبعية وانهيار للهوية .
فأول ما فعله الغرب – والذي به يصير مسؤولاً مع الحداثيين العرب عن أزمة الخطاب النقدي العربي المعاصر – هو نشر مبادئ الحداثة ومناهجها في المجتمع العربي ، فكيف تم ذلك ؟
ليس من العجيب أن يكون للساسة دور في الحركة الأبية والفنية في أي مجتمع من المجتمعات ، فكما كان الملوك والخلفاء – قديماً – يقربون الشاعر ويجزلون له العطاء ، كي يبدع ما يرتفع به شأهم ويعلو به قدرهم ، وعندما تفاقم الأمر بين علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه ) ، وخرجت الخوارج ، وتشيعت الشيعة ، وأعلن الأمويون ولاءهم لمعاوية ، والزبيريون أنتماءهم لعبدالله بن الزبير ، وهجر الصراع من هجر ، فجاءت المذاهب كل بشعرائه ، فهذا يعلن عن مبادئ مذهبه ويحط من مبادئ خصمه أو خصومه ، وذاك يمدح قادة مذهبه ويهجو قادة خصمه أو خصومه ، وكل ذلك كان ظاهراً معلناً لإخفاء فيه ، أما في الأزمة الحديثة فقد كانت الحرب – في نسقها هذا – ظاهرها سلام ، وبطانها هدم وتفويض وذاك هو البلاء المبين ، والكرب العظيم .
كان هذا هو سمت الحرب الباردة الثقافية التي وقعت – بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتدمير الفاشية النازية الألمانية – بين الولايات المتحدة الأمريكية
( المجتمع الرأسمالي المنادي بحرية الثقافة والتعبير ) من ناحية ، والاتحاد السوفيني ( المجتمع الشيوعي المنادي بفلسفة الألتزام ) من ناحية أخري لكن ما علاقة هذه الحرب بما يعيشه الخطاب النقدي العربي المعاصر من أزمة ؟
لتكن بداية الحديث مع الكاتبة الشابة ( فرانسيس ستونر سوندرز Frances Stonor Saunders   ، وهي باحثة بريطانية ، تخرجت في جامعة أكسفورد ، وبعد تخرجها بأعوام  قليلة جمعت فئات الوثائق السياسية السرية – أو التي كانت سرية – التي أفرجت عنها المخابرات المركزية الأمريكية The CIA بسبب النقادم وعلقت علي دراستها ثم كتبت دراسة عنوانها ( من الذي دفع للزمار ؟ - الحرب الباردة الثقافية : المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب ) وفي هذه الدراسة تحاول أن تكشف الباحثة البريطانية عن دور جهاز المخابرات المركزية الأمريكية The CIA  في نشر المشروع الحداثي الأمريكي في مختلف دول العالم ، ومن بينها لبنان ، ومصر .
تقول سوندرز : " بينما كانت الحرب الباردة في أوجه ، كرست حكومة الولايات المتحدة الأمريكية موارد واسعة من أجل برنامج سري للدعاية الثقافية في أوربا الغربية ، كان أحد الملامح الاساسية لهذا البرنامج هو الحرص الشديد علي أن يبدو كأن لا وجود له ، أما الذي يديره فكانت ذراع التجسس السرية لأمريكا ، أو وكالة المخابرات المركزية CIA هذه الحملة السية كان ركيزتها هي منظمة الحرية الثقافية Congress for cultural Freedom   التي كان يديرها رجل المخابرات الأمريكية مايكل جوسلسون Michael Josselson  في الفترة من 1950 إلي 1967 وفي قمة إزدهارها كان لمنظمة الحرية الثقافية مكاتب في 35 دولة ، ويعمل بها عشرات الموظفين ، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ وتنظم المعارض الفنية وتمتلك مؤسسات إعلامية وتعقد مؤتمرات دولية تحضرها شخصيات بارزة وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز ، وترعي معارضهم وحفلاتهم ([43]) .
لكن ما الهدف – أو الأهداف – من كل هذا الدعم للمثقفين والفنانين ، وما الغاية الأساسية وراء إنشاء منظمة الحرية الثقافية ، التي تفرعت منها – ما بعد – جمعية تًُسمي جمعية حرية التعبير ؟ السؤال الذي وضعه سوندرز علي غلاف كتابها هو جزء من مثل إنجليزي معروف هو : من يدفع للزمار يختار اللحن ، وهي ترمي من وراء هذا المثل إلي أن المخابرات المركزية الإمريكية The CIA عندما دفعت للمثقفي والفنانين ، وقولت أعمالهم ، كانت بذلك تهدف إلي أن يكون هؤلاء المثقفون والفنانون مجرد أبواق تقول ما تقوله أمريكا – وتسكت عما تسكت عنه أمريكا .
أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تقنع العالم بمشروعها الحداثي وفي الوقت ذاته تمنع  الفكر الشيوعي من السيطرة علي عقول التحب الثقافية في مختلف دول العالم ، تقول سوندرز ، كانت مهمتها الرئيسية [ الهاء تعود علي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ] هي أن تنبه المثقفين في أوروبا الشرقية لكي يفيقوا من بقايا اغتنائهم الكسول بالماركسية والشيوعية ، وتوجيههم نحو رؤية أكثر توافقاً مع الأسلوب الأمريكي .. بدأت وكالة المخابرات المركزية منذ عام 1947 في بناء كونسورتيوم (اتحاد) Consortium  له واجب مزدوج ، تحصين العالم [ لاحظ التعميم والهيمنة ] ضد وباء الشيوعية ، وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الخارج ، وكان من نتيجة ذلك ، أن تكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الوكالة للترويج لفكرة مؤداها أن العالم في حاجة إلي سلام مريكي Pax Americana  وإلي عصر تنوير جديد ، وأن ذلك سوف يُسمي بـ ( القرن الأمريكي )([44]) لكن كيف قوضت منظمة حرية الثقافة الفكر الشيوعي ؟
أعتمدت هذه المنظمة علي أسلحة ثقافية تخص التحب الثقافية مثل المؤتمرات والندوات والحفلات الموسيقية ، وحفلات توزيع الجوائز ، كما اعتمدت علي أسلحة أخري تخترق كل بيت وهي الصحف والكتب ، وعبر هذه الأسلحة يُنشر كل ما هو مُعارض بل مقوض للفكر الشيوعي ، فقدمت فكرة حرية التعبير ضد فكرة الألتزام الشيوعي ، وشملت فكرة حرية التعبير – فيما بعد- الأسلوب الحداثي في الفن التشكيلي ، ثم الأسلوب الحداثي في الإبداع الأدبي ، والفكر النقدي النظري والتطبيقي ، وكانت الشيوعية تحارب الأسلوب الحداثي ، بل كانت تنظر إلي اللوحات الفنية التي يقدمها الفنانون التشكيليون علي أنها خرائط للترجمة العربية لكتاب سوندرز – عن بعض الأساليب التي أتخذتها المخابرات المركزية الأمريكية The CIA  لتقويض المشروع السوفيتي الشيوعي ، وعندما أفتتح السوفييت بيتاً للثقافة في برلين لبناء ثقافة شيوعية هناك أسرع الأمريكيون من خلال المراكز الثقافية في مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الأمريكية من خلال عروض السينما وحفلات الموسيقي والمعارض الفنية والمحاضرات العامة وإرسال فرق موسيقية من زنوج أمريكا لتغيير المفهوم الشائع عن العنصرية الأمريكية ، وأعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات هائلة ومطلقة ليفعل ما يشاء([45]) من أجل حماية الصورة Image  الأمريكية التي ترسمها وسائل الدعاية والإعلام.
فلم يكن الهدف – إذا – هو نشر الثقافة والفنون والآداب من أجل تثقيف الشعوب ، وتنوير العقول والرقي بالأحاسيس الإنسانية ، ربما كان هذا هو ظاهر الأمر كما يفهمه كثير من دعاة الحداثة والتنوير ، لكن الحقيقة أن المسألة ليست تثقيفاً أو تنويراً أو رفثاً ، بل هي محاولة لبناء فكر وتقويض فكر آخر ، رغبة في تهيئة الشعوب للهيمنة الثقافية ، حتي تصبح الشعوب كلها مدافعة – بعد أن تكون قد مرت بمرحلتي الانبهار والاقتناء – عن ثقافة أمريكية رأسمالية غربية ، أو ثقافة سوفيتية شيوعية شرقية .
وعندما تقبل الشعوب الهيمنة الثقافية ، ويصبح قادة الفكر – فيها – أبواقاً  تُطعم لتقول ما به تعلو هامة المهيمنين وما به تستعير نيرانهم ، وتقوي شوكتهم – عندما تقبل الشعوب تلك الهيمنة الثقافية ، فلا مانع من أن تخضع – يوماً – للهيمنة العسكرية ألم يقل بعض أهل العراق – المهيمن عليهم ثقافياً – إن الخلاص والحرية والسعادة والرفاهية في قدوم أمريكا ، ثم خاب أملهم ، وضاع حلمهم فدمروا بأيديهم وادي أعدائهم مجدهم وعزهم ، ووجدوا الحرية سراباً والسعادة شقاءً ؟
لكن لماذا تمتلك الثقافة تلك القوة الهائلة في القدرة علي امتلاك العقول ، والسيطرة علي الأفكار ؟ ولماذا أعطت المخابرات الأمريكية كل هذا الاهتمام للجانب الثقافي في حربا الباردة مع الاتحاد السوفيتي ؟
يقول الدكتور عاصم الدسوقي : " إن ما فعلته المخابرات الأمريكية في عالم الفن والأدب لإعادة بناء البنية الثقافية في العالم بما يؤدي إلي كراهية الشيوعية والسعي وراء النموذج الأمريكي يؤكد سرعة الثقافة في التأثير علي الوعي وعلي الوجدان من خلال الرواية الأدبية والدراما في السينما والتليفزيون والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية ، بحيث يتم تدريجياً التخلي عن نمط قديم واكتساب نمط آخر خاصة إذا كان هذا الآخر يركز علي الحريات المطلقة دون ضوابط مقابل القيود القائمة في الشرق الشيوعي ([46]) .
والسؤال الذي يفرض نفسه – الآن – هو : ما علاقة المخابرات المركزية الأمريكية The CIA   بتلك الأزمة التي يعيشها الخطاب النقدي ، بل والإبداع الأدبي العربي المعاصر ؟
ذكرت آنفاً أن رابطة حرية الثقافة التي كونتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، انتشرت في العالم ، مثل انتشار النيران في الهشيم وأصبحت لها مكاتب كثيرة في دول مختلفة حول العالم ، وخاصة الدول التي كانت الشيوعية السوفيتية تحاول أن تغرس في عقول أبنائها مبادئ الفكر الشيوعي الملتزم ، مثل دول شرق أوربا التي تحررت من الاحتلال النازي .
وكانت مهمة هذه المكاتب متابعة الحركات الثقافية في الدول التي أنشئت فيها ثم رعابة التحب الثقافية وتمويل مشاريعهم ، التي تهدف بالطبع إلي إقناع الشعب عامة – في كل دولة علي حدة – بما يمكن أن يقدمه له المشروع الثقافي الأمريكي الحداثي من تقدم ورقي وتنوير ثقافي وحضاري .
وفي الوطن العربي ، كانت لبنان ثم مصر بعد ذلك ، هما الدولتان العربيتان اللتان أبتليا بإنشاء مكتب لرابطة حرية الثقافة في كل واحدة منهما : بحلول [عام] 1951 م كان لرابطة حرية الثقافة عدد كبير من المكاتب أو المقار في أوربا وأمريكا اللاتينية وآسيا ، وأن أول هذه المكاتب في العالم العربي بدأ في لبنان ، وفي مرحلة لاحقة من العقد نفسه افتتح مكتب آخر في القاهرة .
وهكذا بدأت في افتتاح عدد من المجلات والدوريات بتمويل كامل من المخابرات الغربية بهدف تمكينها من ( التنفيس Let offsteam  ) ، وقصة مجلة (حوار) التي أفتتحت في القاهرة كنسخة عربية مقابلة للمجلة اللندنية المبكرة Encounter   في وائل الستينات إلي أن أضطرت لإغلاق أبوابها بعد افتضاح أمرا . هذه القصة معروفة للمثقفين في مصر ، لكن هناك مجلة أخري .. ونقصد با مجلة شعر البيروتية ([47]) .
فقد أغلقت مجلة (حوار) عندما افتضح أمرها ، حتي لا تنكشف المؤامرة كلها ، وأنشئت مجلة أخري تحل محلها ، وتؤدي دورها ، وهي مجلة شعر البيروتية ، فما علاقة تلك المجلة بجهاز المخابرات المركزية الأمريكية ؟
يقول الدكتور عبدالعزيز حمودة : إن ظهور مجلة شعر في بداية 1957م والظروف التي أحاطت بها تشي بعلاقة وثيقة برابطة حرية الثقافة ، فقد ظهرت بعد ما يقرب من عقد من بداية نشاط الرابطة المشبوعة ، ومؤسسها نفسه ، يوسف الخال .. كان مقيماً في نيويورك ، وعاد إلي بيروت فجأة عام 1955 ليصدر المجلة التي ارتبط اسمها بالحداثة العربية إلي حد كبير بعد ذلك التاريخ بأقل من عامين ([48]) .
لا أستطيع أن أتهم القائمين علي مجلة (حواء) القاهرية ، ومجلة (شعر) البيروتية بالتآمر مع المخابرات المركزية الأمريكية ضد الثقافة العربية ، لأنني لا أمتلك الأدلة المادية التي أقيم بها ضل هذا الأتهام ، لكن الشئ الذي أطمئن إلي قوله هو أن الجزيرة الكبري التي أرتكبها هؤلاء هي تبني الفكر الحداثي الرأسمالي الغربي دون فهم الماورائية التي يدف إليها ، وقد ظل هذا الفكر المتبني ينتقل في أرضنا العربية من جيل إلي جيل ، حتي قيض الله لثقافتنا العربية أناساً فهموا هذا المقصد الخبيث ، وتلك النية الماكرة ، فما كان منهم إلا أن صرخوا بأفواههم وأقلامهم محذرين من التبعية غير الواعية لهذا الفكر الوافد ، ومنهم محمد مندور ، وشكري عياد ، ومصطفي ناصف ، وعبدالحميد إبراهيم ، وسيد البحراوي ، وحامد أبو أحمد ، وعز الدين غسماعيل ، وسعد البازغي ، ووليد منير ، وإدوارد سعيد ، وعبد الله إبراهيم ، وصفوت الخطيب وشكري عزيز الماضي .. وكثير من تلاميذ هؤلاء الأساتذة العظماء المخلصين لثقافة الأمة وهويتها .
إجابة عن سؤال : علي من تقع مسئولية أزمة الهوية النقدية العربية المعاصرة أقول : تقع هذه المسؤولية علي طرفين : الطرف الأول هول المخابرات المركزية الأمريكية The CIA بما حاولت أن تغرسه فينا من فكر حداثي رأسمالي غربي معاد للفكر الألتزامي الشيوعي الشرقي عن طريق رابطة حرية الثقافة بمكاتبها ومجلاتها وأنشطتها الثقافية والفنية من رعاية المؤتمرات والندوات والحفلات وتكريم التحب المهيمن عليهم بالجوائز ، ومن رفع لواء الحداثة الحرة ضد القيود الألتزامية الشيوعية .
أما الطرف الآخر فهم الحداثيون العرب أنفسهم ، سواء منهم من آمن بالحداثة – فكراً وأداءً – بحسن نية مستوحاة من رغبة حقيقية في تحديث العقل العربي عقب الهزيمة العسكرية عام 1967 م ، ومن رغبة حقيقية في إعادة بناء الحلم العربي عن طريق بناء النهضة الثقافية .
أو منهم من قذف به في تيار الحادثة بعد أن دفع له الزمار ، فما كان من امره إلا أن لحن ما يمليه عليه الزمار ، وكلاهما كان استاذاً لجيل من التلاميذ جاءوا بعد ، فاقتفوا أثره ، وتلقفوا فكره ، ثم تلاه جيل فجيل فجيل ، وظل الفكر الحداثي بشقيه المستعار بحسن نية ، أو المغرس فينا عن رضي وتفاخر ، ينمو وينمو وتنتشر آفاته ، ويتوغل سُمُهُ في بدن الثقافة العربية ، حتي تحقق ما كان يرجوه المجتمع الرأسمالي الغربي منذ عام 1947 م ، وهو الهيمنة الثقافية والتبعية الفكرية أو ما يسمي بالإمبريالية الثقافية ، وهي استعمار الفكر والسلوك وذلك الاستعمار اشد خطراً من استعمار الأرض واحتلال البلاد .
وخلاصة ما أقول : إن ثمة فارقاً جوهرياً بين حادثة الأمس وحداثة اليوم ، فالأولي حداثة تمثل التبعية التنويرية ؛ حيث بدأت بالتأثر اليوناني عن وعي وحسن معالجة وإعلاء للتراث وانتهت بنظرية متكاملة في النقد والجمال هي نظرية حازم القرطاجني ، أما الأخري في حداثة تمثل أنهيار الهوية ، حيث بدأت بنقل ثقافة الغرب عن نية حسنة ومقصد نبيل ، ولكن ينقصهما الوعي الدقيق والمعالجة المستنيرة وتقدير التراث فانتهت بحداثة مأزومة مؤمركة ، وهوية مهددة بالذوبان في هوية الفكر الغربي الرأسمالي ، فما الحلول المقترحة لإنقاذ الهوية وحل الأزمة .
1/ب – 5 : لا مناص من صوغ حلول تُعين علي تخطي تلك الأزمة وثمة ثلاثة تساؤلات تكمن في الإجابات عنها الحلول المقترحة لتخطي الأزمة والحفاظ علي الهوية وهي : كيف نتعامل مع الفكر الغربي الحداثي الوافد ؟ وكيف نتعامل مع الفكر العربي التراثي ؟ وكيف نرأب الصدع بين الحداثيين والتراثيين ؟
1/ب-5- I : لا يمكن لأي أمة من الأمم أن تحقق تطوراً نظرياً أو تقنياً إلا عبر احتكاها الرشيد بغيرها من الأمم وخير مثال علي ذلك أن ما حققته الأمة العربية من تطور نظري في مجال النقد الأدبي لم يتأني لها إلا من خلال الاحتكاك الواعي الحكيم بالفكر الفلسفي اليوانين النظري ، لأن الله – سبحانه وتعالي – خلق الأمم ، وجعلها شعوباً وقبائل ، للتعارف والتواصل لا للتناكر والانعزال .
          فالأمة العربية لم يكن مألوفاً لديها التفكير التنظيري وكثيراً ما كانت تعمد في معالجاتها للنصوص إلي التحليل ، وعندما تعرف النقاد القدماء علي الفكر الأرسطي ممثلاً في شروح الفلاسفة المسلمين أكملوا ما نقص عندهم – أو انعدام – من هذا العطاء الإلي – الذي وهبه الله لليونانيين ، ثم تطور لديهم وبهم حتي نضجت ثماره في الأندلس عند رجل القرن السابع الهجري حازم القرطاجني .
          تعني هذه المقدمة أن تخطي أزمة الهوية النقدية ، ورأب الصدع بين الحداثيين والأصوليين ، وبناء نظرية نقدية عربية حدثية ، والقضاء علي قيود الهيمنة الثقافية ، والأمركة الحداثية ، والتبعية التجريبية ، لا يتم بالانعزالية ، ولا بالتفاخر – اذلي أورثنا الكسل والتواكل – بأننا أمة سيورثنا الله أرضهم وديارهم ، ولا بالخوف المرعب – الذي غرسته فينا الشبهات والشائعات – من الفكر الغربي الوافد ، ولا بثقافة الاستهلاك الأعمي االذي يأخذ من الوافد شره ويدع خيره ، ولا بثقافة السوق تنتقل لوافد المستغرب معتمدة علي قول المتاجرين بالعقول : من أتي بقديم معهود خسر ، ومن خرج علينا بحديث مستغرب ربح .
          لكن ما به تتحقق المقاصد المرجوة والمرامي المبتغاة هو التعارف علي الفكر الوافد ، والتواصل مع المنتجين له ، وهنا يُطرح تساؤل مهم للغاية ، فحواه: كيف يتم هذا التعارف علي الفكر الغربي الوافد ؟
          يقول ميشال فوكو Mice Foucault  في حفريات المعرفة ، فتحليل الفكر هو – دوماً وباستمرار – تحليل يسعي إلي البحث عن المعني الحقيقي وراء المعني المجازي ، يبحث عما وراء الخطاب ، سؤاله يتجه ةبلا شك ، نحو استكناء ماذا كان يقال وراء ما قيل فعلاً ؟ ([49]) الخطأ الذي وقع في نقلة الفكر الغربي أنهم نقلوا ما قيل فعلاً – بغض النظر عما يشوبه من غموض وتشويه – لكنهم لم يدركوا المعاني الحقيقية وراء ما قيل ، لم يطرحوا علي أنفسهم السؤال التالي : لماذا قيل ما ننقله ؟ وما جذوره عندهم ؟ وهل له جذور عندنا ؟ وما علاقته بإبداعهم ؟ وما علاقته بإبداعنا ؟ وهل يتفق مع ثقافتنا أم تتعارض ؟ وفي أي مواطن تقع نقاط الاتفاق والتعارض ؟ وهل نكتفي بنقلها ؟ أم تقبل التحوير والتطوير ؟
          الإجابة عن نواحي هذا التساؤل تمثل النصيحة الأولي للتعامل مع الفكر الغربي الوافد وهي المحاورة ، فالجرم الذي ارتكبه الذين نقلوا إلينا الحداثة أنهم لم يجيدوا فن المحاورة ، يقول الدكتور عبدالغني بارة : " أضف إلي ذلك [ الأسباب الحقيقية التي جعلت الحداثة العربية مأزومة ] غياب الوعي لدي النقاد الحداثيين العرب ؛ إذ هالم التطور المذهل الذي وصلت إليه الحداثة في الغرب ، فانهالوا عليها متلهفين ، دون تمحيص أو دراية بخصوصياتها المعرفية التي أفرزتها ، فكانوا مترجمين لعناوين هذه الحداثة وناقلين أوفياء لنسختها الغربية ، وكان الأجدر أن يكونوا محاورين واعين لما يترجمون ([50]) .
          ينجم عن هذه المحاورة القدرة علي الفهم وحسن الاختيار وهذه هي النصيحة الثانية للتعامل مع الفكر الغربي الوافد ، فإذا فهم الناقل مقولات الفكر الغربي فهماً جيداً ، وأدرك حفريات هذا الفكر ، وكان علي وعي بطبيعة القضايا التي يناقشا فإنه تتولد لديه قدرة علي حسن الاختيار والانتقاء من مقولات هذا الفكر ما له قدرة علي إفادة الثقافة العربية والنهوض بها فليست الحداثة خيراً كلها، أو شراً كلها ، ولابد أن تعرض معطياتها علي مقياس الهوية . الذي تتمثل أدواته في طبيعة الإبداع العربي الذي أنتجته الأمة في ظل قيمها المعرفية وظروفها المجتمعية وفي معتقداتها الفكرية والدينية ، وفي ميولها النفسية ورغباتها السلوكية وفي شتي أركان بنيتها الثقافية .
          فإذا تبين للناقل أن بعض معطيات الفكر الغربي الذي ينقله تتعارض مع أدوات المقياس التي سبق ذكرها ، وجب عليه إما التخلص منها ، أو تحويرها بما يجعلها متفقة مع أدوات المقياس وتلك هي النصيحة الثالثة للتعامل مع الحداثة الغربية الوافدة ، ويضرب لنا الدكتور حمودة مثلاً علي ذلك فيقول : " أول الاختيارات المطروحة أمامنا أن نبدأ حيث انتهي العقل الغربي من رفض للعلم بذلك المعني الضيق ... العلم الذي لا يخضع إلا لقوانين المادة ، العلم الذي يفسر كل الظواهر علي أساس مادي تجريبي ، فيقبل ما يثبت التجريب الإمبريقي وجود وصحته ، ويرفض ما يثبت التجريب الإمبريقي عدم وجوده أو صحته ، أو حتي ما لا يقبل القياس أو الحكم التجريبي ([51]) .
          ثم إذا استقر الناقد الناقل للفكر الغربي علي مقولة ما أو منهج معين وأتخذ قراراً بنقله للثقافة العربية بعد أن فهمه جيداً ، وعرضه علي مقياس الهوية ، فأقرت أدواته بصلاحيته للحصول علي تأشيرة لدخول الثقافة العربية ، وجب علي الناقد الناقل بعد كل هذا ألا يقف هده عند حدود النقل الأمين ، بل يجب عليه أن يتعامل مع المقولة أو المنهج داخل الثقافة العربية فيتعهدهما بالدرس النظري والتطبيقي رغبة في تطويرهما ، وإظهارهما في صورة ميسرة يفهمها القارئي العادي قبل القاري المتخصص وتلك هي النصيحة الرابعة للتعامل مع الفكر الغربي الوافد .
          لا أديمي الباحث أنني اقدم نصائح لم يقلا أحد قبلي ، أو لم يطبقها ناقد حصيف ، أو مترجم قدير ، بل وعاها القدماء وكثير من المحدثين ، إنما هي محاولة للتذكير بعبقرية الناقد العربي القديم في تعامله مع الفكر اليوناني الفلسفي الوافد مترجماً ، ومحاولة – ايضاً – لإثبات قيمة من قيم التراث التي نالها منا التجاهل والتحقير ، فالنقاد العرب القدماء مارسوا فن المحاورة مع الفكر الأرسطي، فلم ينقلوا ظرية المحاكاة – مثلاً – كما هي ، بل فهموا المحاكاة في ضوء طبيعة الشعر الغنائي لا الشعر الموضوعي ، فعرف حازم أن المحاكاة تصوير لا تقليد ، كما أهم مارسوا القدرة علي تطوير المقولات النقدية الوافدة ، فأضافوا إلي المحاكاة عنصر الابتداع – كما سبق أن أشار الباحث آنفاً – كذلك مارسوا حسن الاختيار ، فهجروا فن المسرح اليوناني ؛ لأنه يقوم علي فكرة الصراع بين الآلهة المتعددة ، والصراع بين الإله والإنسان ، وهذا يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي ، كما عرضوا المقولات النقدية اليونانية علي مقياس الهوية الأدبية ، فإذا كان فلاسفة الإسلام الذين شرحوا أرسطو قد أخطأوا في تفسير بناء الشعر العربي لقياسه علي بناء الشعر اليوناني ، فإن حازماً لم تستقم لديه طريقة أرسطو بناء الشعر اليوناني ليطبقها علي الشعر العربي ، فأفاد منه التنظير فحسب ثم اعتمد علي طبيعة الشعر العربي وعلي جهود النقاد السابقين عليه في تفسيره لبناء الشعر العربي ([52]) .
          هذكذا تتضح أهمية التراث في تخطي الأزمة ، وبناء الهوية ، لذا كانت العودة إلي التراث خطوة ضرورية وملحة ؛ لأن الأشجار لا تنمو بلا جذورها ، وهكذا الأمة لا تحقق تقدماً ورقياً ، إذا أقام ابناؤها – كما هو واقع – قطيعة معرفية مع ماضيهم ، وعدوا هذا الماضي حجر عثرة أمام تقدمهم وحجاباً يمنع النور من عقولهم وأبصارهم ، والحداثيون أنفسهم يقرون هذه الحقيقة ، علي الرغم من أن بعضهم لا يؤمن إلا بحداثة منقطعة الأواصر ومنفصمة العروئ ع الماضي، فالدكتور عبدالله الغذامي – وهو من كبار النقاد الحداثيين – يؤكد في حوار أجراه معه الأستاذ عبدالله السمطي حول ( عقليتنا الثقافية وفعل النقد ) ، ونشر علي شبكة المعلومات الدولية ( الأنترنت Internet  ) – علي أن الانقطاع عن الماضي أمر محال ، حيث يقول : " هذه [ يقصد العودة للتراث لإحداث التجديد ] ليست ضرروية هذه حتمية لا مجال للاختيار فيها ، والتصور الذي يعتقد أنه بالإمكان أن نطرح جديداً بنسبة 100 % ولا خلفية ثقافية له فهذا أمر مستحيل سواء في الفكر الغربي أو العربي أو الفكر الإنساني كله .. فالقديم حاضر في الجديد بالضرورة إذن هي ضرورة حتمية وليست مسألة خيار ، لذلك فالذين يقولون دائماً : إن الحداثة هي انقطاع وانبتات مع الماضي هذا ليس صحيحاً ، ليس بإمكان أحد أصلاً أن ينقطع عن الماضي .. خذ أكبر حداثي في التاريخ العالمي أو حتي لدينا في الثقافة العربية ماذا يفعل ؟ إنه ليس منقطعاً حتي وإن أدعي ذك ، أنت حينما تقرأ نصه تجد التاريخ الثقافي القومي والعالمي في داخل هذا النص ([53]) .
          والشئ الذي يتأكد به كلام الغذمي هو أن أية حداثة تقوم علي أساس قطع الصلة بينها وبين الماضي تموت في مهدها ، والدليل علي ذلك أن النقد البنيوي – مثلاً – منذ أنطلق في الخمسينيات من القرن العشرين في فرنسا علي يد الناقد الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتروس Claude levi  في كتابه الأنثروبولوجيا البنيوية Anthropologie structurale  الذي صدرت طبقة الأولي عام 1958 م بتوجيه من المفكر اللغوي البنيوي رومان جاكبسون Roman Jakobson  حين دفعه إلي الأهتمام بدرس الفكر اللغوي البنيوي ، فاستثمر شتروس ثناية المفكر اللغوي الفرنسي دي سوسير ، في الوصول إلي ما أسماه ( الوحدات التكوينية ) ، وهي عبارة عن جمل قصيرة تنتج معني وظيفياً عندما تتضام مع غيرها من الوحدات في حزم من العلاقات Bundles of rel – ations  . يمكن من خلال دراسة هذه الحزم في بعديها الرأسي والأفقي تفسير الأعمال الأدبية وقد استثمر كلود ليفي شتروس هذا المنهج في دراسته للأساطير([54]) ، أقول : هذا النقد اعتمد اعتماداً كلياً  علي اللغة كآلية للنقد ، وعد النص الأدبي نصاً منغلقاً علي ذاته منفصلاً عن أية تأثيرات خارجية ( تاريخية / سياسية / اجتماعية / سلوكية .... ) نشأ في رحابها ، وكان التحليل اللغوي قائماً علي قطع الصلة بينه وبين التحليلات النقدية السابقة عليه مثل : التحليل التاريخي ، والاجتماعي والنفسي ، وعد هذه التحليلات صوراً للنقد الخارجي التي تهتم بما هو خارج النص ، وغير قادرة علي فهم البنية التحتية (العميقة) الكامنة وراء البنية الفوقية (الظاهرة) للنص .
          النتيجة وراء هذا الفصل بين النقد الخارجي غير اللغوي القديم ، وبين النقد الداخلي اللغوي الجديد – هي موت البيوية في مهدها ، ولكنها عندما بدأت تقدر التراث وتعلي من شأنه وتمزج بين معطيات النقد الجديد اللغوي الداخلي ، وبين معطيات النقد القديم ( النفسي – التاريخي – الاجتماعي ) الخارجي – ولُدت من جديد في صور مختلفة مثل : البنيوية التوليدية Genetic Struralism   - التي تقدر البعد الاجتماعي في النقد البنيوي – لدي لوسيان جولدمان Lucien Goldmann   ، والتحليل النفسي البنيوي Astructural Psychonalysis  عند جاك لا كان Jacques lacan  ، والبنيوية المعرفية – التي تقدر البعد التاريخي في النقد البنيوي – عند ميشيل فوكو Michel Foucaut  في كتابه حفريات المعرفة The Archeology of Knowledge  .
          ويصدق هذا الكلام أيضاً علي النقد الأسلوبي ، حيث كانت النظرة الأسلوبية إلي النص – في بداية الأمر – تري أن جماليات النص الأدبي
تنشأ من خلال صياغته الاسلوبية ، ولا فضل في ذلك للمؤثرات الخارجية ، يقول الدكتور / محمد عبدالمطلب : " والأسلوبية علي الصعيد النقدي تعمل علي اكتشاف طبيعة العناصر اللغوية التي جُمعت تحت نسق متصل ، وترفض ربط النص بعوامل خارجية بتركيزها علي التحليل والفهم دون استناد إلي التعليل والتبرير "([55]) .
          وكما حدث مع النقد البنيوي ، بدأت الأسلوبية في مرحلة لاحقة –تُقدر جدوي العوامل الخارجية في عملية النقد بعد أن أنكسرت حدة الاتجاه اللغوي في النقد ، فجاءت الأسلوبية التعبيرية أو أسلوبية التعبير علي يد المفكر الفرنسي
( شارل بالي
Ch. Bally  ) وهي تقدر الأبعاد النفسية والاجتماعية في التعبير الأسلوبي ، ثم الأسلوبية الذاتية عند المفكر الألماني (ليو سبتزر Leo Spitzer ) وهو تلميذ الناقد الجمالي الألماني كارل فوسلير K. Vossler  ولكنه مقدم عليه لغزارة إنتاجه العلمي ، وأسلوبية سبتزر تقدر البعد النفسي ؛ لأنها تنفذ إلي بعد أغوار الذات المبدعة لكن عبر الدلالة اللغوية ، يقول المسدي ، وهذا الشطط العقلاني في منهج البحث هو الذي استفز ردود الفعل المضادة فتولد علي يد الألمان لـ . ستبزر Leo Spitzer  منهج أسلوبي لامجازفة في شئ أن ننعته بتيار الانطباعية ، فكل قواعده العلمية منها والنظرية قد أغرقت في ذاتية التحليل وقالت بنسبية التعليل وكفرت بعلمانية البحث الأسلوبي ([56]).
1/ب-5- II – إذا كان التراث له كل هذه القيمة ، التي تجعل فهم الحداثة مرهوناً بفهمه ، وتخطي الأزمة لا يتم إلا بالتواصل معه ، فكيف نتعامل مع رافد له مثل هذه المكانة ؟ النصيحة الأولي – في تعاملنا مع التراث – لتخطي الأزمة وبناء الهوية هي أن نعبر جسر التواصل دون أن نُصدق إن التراث حجر عثرة أمام تقدمنا ، وإن إنجاز الحداثة في إغلاق كتب التراث ، وتحقيق قطيعة معرفية مع منجزاته بعد عبور الجسر تبدأ علاقة الاتصال الحقيقية بالتراث ، ولهذه العلاقة رافدان ، رافد الانتقاء ، ورافد التعامل مع المنتقي ، وفي الأول سؤالان : كيف ننتقي ؟ وماذا ننتقي ؟
          فعلي سبيل التمثيل لا الحصر يمكن أن ننتقي من التراث المصطلحات اللغوية والبلاغية والنقدية ، مثل الفهم والإفهام عند الجاحظ ، ومصطلح الضم عند القاضي عبدالعزيز الجرجاني ، ومصطلح معني المعني عند عبدالقاهر الجرجاني ومصطلح التناسب عند حازم القرطاجني ، وغيرها ، ويمكن أن ننتقي النظريات مثل نظرية النظم ونظرية المحاكاة ونظرية الاتصال اللغوي وغيرها وكذلك ننتقي القضايا مثل علاقة الدال بالمدلول ، والمعني الأول والمعني الثانوي ، وقضية اعتباطية العلامة ، وقضية المعني النفسي ، وقضية كسر الألفة ، وإدخال المعاني في علاقات جديدة ، وقضية الأسس الجمالية للعبارة الشعرية ، وغيرها الكثير .
          إما الكيفية التي بها ننتقي هذا كله وغيره ، فتبين في قول الدكتور حمودة : " إن تطوير نظرية لغوية ونقدية عربية ، يتطلب القيام بعملية غربلة دقيقة وتنقية واعية لتراثنا اللغوي والنقدي من كثير من تناقضاته وتداخلاته قبل أن نضع أيدينا علي مفردات تلك النظرية " ([57]) .
          وبعد الاستقرار علي المنتقي (مصطلح / نظرية / قضية / ... ) تبدأ مرحلة التعامل معه ، وهو الرافد الآخر من رافدي عملية التواصل الحقيقية مع التراث ، وفي هذا الرافد تكمن النصحية الثالثة وهي عدم التعامل مع المنتقي من التراث بمجرد نقله وشرحه ثم التفاخر بسبق العرب – لبعض مفردات هذا المنتقي – للحداثيين الغربيين ، ثم فكثير من النقاد العرب المحدثين قروا النظريات النقدية الغربية ، ثم عادوا في مرحلة لاحقة وقروا التراث ، أو ربما حدث العكس عند بعضهم ، وعندما لاحظوا تشابهاً  - من قريب أو بعيد – بين المقولات النقدية العربية والغربية ، ثم عادوا في مرحلة لاحقة وقرأوا التراث ، أو ربما حدث العكس – عند بعضهم وعندما لاحظوا تشابهاً من قريب أو بعيد – بين المقولات النقدية العربية والغربية فجاهروا بالتفاخر بسبق العرب لهذه المقولات .
          هذا التفاخر – مع الاعتذار لمن نقل وشرح ثم فاخر – لا يمثل الهدف الحقيقي من العودة إلي التراث ، بل يتمثل في دعوة الدكتور ، وليد منير ، حين قال : " ولعلنا في حاجة غلي تحريك المصطلح النقدي القديم ، وبث الحياة فيه من جديد ، بنس قدر حاجتنا إلي استنبات مصطلحات محدثة من تربة الثقافة العربية الراهنة ، وقد يكون بوسعنا أن نتساءل : هل تنطوي بعض النظريات العربية القديمة كنظرية النظم عند الجرجاني ونظرية الخيال عند ابن عربي ، ونظرية الكلام النفسي عند الأشعري علي إمكانات تسمح لنا بتطويرها أم لا ؟ فما زالت الحاجة قائمة – في ظني – إلي إبداع نظرية أو نظريات نقدية عربية في قدرتها معالجة خصوصية الخطاب الأدبي والثقافي الفكري ، واستكناه طبيعته والوقوع علي خصائص تفرده دلالة ومعني " ([58]) .
          بعد أن تتم عملية الانتقاء والتطوير ، يجب علي الناقد العربي ، ألا ينغلق علي ذاته ، ويكتفي بما حقق من اتصال فعال مع التراث ، بل يجب أن يحمل ذلك المنتقي المطور زاداً علي راحلته ويسافر إلي أرض الحداثة ، وبون شاسع بين من سافر خاوي الوفاض ، وبين من سافرمحملاً بزادٍ معبر عن هويته وحافظ لخصوصيته ، فالأول سينقل إلينا من أرض الحداثة فكراً بعوالقه المعرفية وظروفه المجتمعية التي نشأ في رحابها ، فلا يحدث فهماً ولا إفهاماً ، وعند التطبيق يُصيب النصوص باختناق حتي تنصاع إلي فكرة المستعار ، ويُصبح الناقد غير واع لما يقوله ، والمبدع غير فاهم لما يُقال عن إبداعه ، والقارئ بين الأثنين حائراً .
          أما الآخر فسوف يُحاور الفكر الحداثي الغربي ، وهو متمسك بمبادئ ويته النقدية ، ومقوماتها ، فيقارن المصطلحات بالمصطلحات والنظريات بالنظريات ، والقضايا بالقضايا ، وهو مدرك – بفضل تواصله مع التراث – لاختلاف خصوصية الغبداع العربي عن نظيره الغربي ، فتكون النتيجة أن ينقل – بل يبدع – لنا فكراً تري فيه سمات الهوية النقدية العربية ، وتري فيه أيضاً حسن الإفادة من الآخر عن طريق إضاءة ما غمض عندنا ، وإكمال ما نقص لدينا ، وعندما يطبق فكره علي النصوص لا تجد كثير عناء في فهم مقصده .
          ألا يذكرنا موقف الأول بشراح سطو من الفلاسفة المسلمينوموقف الآخر بحازم القرطاجني ؟ ، يقول الدكتور صفوت الخطيب : وعلي الرغم من أن محاولات ابن سينا وابن رشد تفسير بناء الشعر العربي من خلال بناء الشعر اليوناني باطلة من أساسها ؛ لاختلاف طبيعة الشعرين إلا أنها فيما سبق من نقاط يمكن أن تكون مقبولة إذا أخذ منها ما يخص علم الشعر المطلق ، أما أن تؤخذ علي أنها تطبيق لهذا البناء علي الشعر العربي فهذا هو الخطأ الفاحش ، والذي يبدو علي نحو جلي في فهم ابن رشد للعقدة والحل في الشعر المسرحي ومحاولته التطبيق علي الشعر العربي ... وعلي عكس هذه الطريقة كان تناول حازم لبناء الشعر فهو وإن أفاد من التراث الفلسفي المنهج أو طريقة التقسيم المنطقية ، إلا أنه اضطلع بالتنظير لبناء الشعر العربي علي أساس من استقرائه ، ومن الأنظار النقدية العربية السابقة عليه " ([59]) .
          ولعل النقد العربي الحديث – تنظيراً وتطبيقاً – في حاجة ماسة للتوسل بمنهج حازم في صراع المخلصين – من المشتغلين به – مع نظرائهم من اللاهثين وراء الفكر الغربي نقلاً وترجمة ، ثم تنظيراً لقضايا ، وتطبيقاً لمناهجه ، ففي منهج حازم تكمن آلية رأب الصدع بين قطبي الصراع : الأصوليون المخلصون للتراث ، والحداثيون المهيمن عليهم فكرياً وسلوكياًُ أو الذين دهمتهم رحي الإمبريالية الثقافية الغربية ، عرك الرحي بثقالها .
          والعلة وراء كون الحاجة إلي التوسل بمنهج حازم ةماسة وملحة – هي اتساع دائرة الصراع يوماً بعد يوم ة، بين القطبين ، بل وتكثر مستوياته وتتعمق أبعاده ة، فالفريق الأول منغلق علي ذاته ، ينظر إلي الماضي علي أنه خير ما أنجزته الأمة ، وأي تقدم لا ينبع إلا منه ، ولا يعود إلا إليه والتمسك به حفظ للهوية ، وهجرة إلي غيره تمزيق للأمة .
          ويري الفكر الوافد – علي الجانب الآخر – طاعوناً يحدق بالذات والجري ورائه يورث الفساد والإلحاد .
          أما الفريق الآخر فهو منفتح علي الآخر ، يلهث وراء بلا ثوابت تقيم دعائم هويته القومية ، ولا أصول تعضد مقومات خصوصيته الثقافية ويري في فكره عوامل تقدمه ، وأسس تطوره ، فينقل منه الحسن ، والقبيح دون روية وتنقيح ، وينظر إلي الماضي الأصيل علي أنه حمل ثقيل ، وحجر عثرة أمام التغيير والتطوير .
1/ب – 5 – III – إن رأب الصدع بين الحداثيين والتراثيين هو الحال الثالث من الحلول المطروحة لتخطي الأزمة التي يعيشها الخطاب النقدي العربي المعاصر ، والنصيحة الأولي لإتمام التواصل بين قطبي الصراع ، وتأكيد ميثاق العروة الوثقي بينهما هي إقناعهما معاً بأن الثقة يجب أن توزع علي الحداثي الوافد والتراثي الأصيل بدرجة واحدة ، فلا نضع الثقة في أحدهما وننزعها من الآخر ، لأن القناعة بهذه الثقة ستدفع قطبي الصراع إلي التخلي عن شعاراتما التي تشتعل بها نيران الصراع .
          فالحداثي كما يضع ثقته في الفكر الوافد ، ويؤمن به لابد أن يضع ثقته أيضاً ، وإيمانه كذلك في المرجعية الفكرية والثقافية للذات والتراثي كما يضع ثقته وإيمانه في التراث ، لابد أن يثق في جدوي التواصل مع الآخر ويؤمن بأن التطور والتقدم والرقي ، لا يكون واحداً منهم أو جميعهم في الانغلاق والانعزالية.
          أما النصيحة الثانية فهي إقناع الحداثيين والتراثيين كليهما بأن قراءة الآخر والتواصل مع الذات وجهان لعملة واحدة ، لا يمكن لوجه أن يستغني عن وجه ، وإذا اعتقد الحداثيون بأن قراءة الآخر وحدها هي سبيل الحداثة فليعلموا أن هذا اعتقاد خاطئ ، وتلك حداثة مزعومة مأزومة لما تفقده من أصول الهوية لانقطاعها عن الماضي وإذا آمن اتراثيون بأن التواصل مع الذات هو السبيل الوحيدة ، والضمان الأمثل لتحقيق تقدم أصيل ، ورقي مبني علي مقومات الذات فليعلموا – أيضاً – أن تقدهم هذا هو التأخر عينه ، ورقيهم هو التخلف ذاته ؛ لأن الذات لا تعُرفُ إلا من نخلال تواصلها مع الآخر ، وسر تقدمها ، ورقيها كامن في تواصلها معه فكرياً وتقنياً حتي تستكمل ما نقص لديها من مهارات أغني الله با الآخر ، وتبني ما افتقرت إليه من قدرات أفاء الله بها علي الآخر ، مع مراعاة أن التواصل مع الآخر لا يعني تبعية تنقاد فيها الذات انقياد البعير من ناحية ، وأن التعرف علي الذات وقراءة الماضي لا يعني انحباس الذات خلف أسوار الماضي ، من ناحية أخري .
          والنصيحة الثالثة كامنة في منهج حازم ؛ فقد تمتع حازم بقدرة فائقة علي حفظ استقلالية الذات ؛ فعندما قرأ أرسطو عبر شروح الفلاسفة المسلمين ، كان محاوراً ، أو كما يقولون عليه بلغة الحداثة قارئاً فعالاً فلم يندفع وراء فكر أرسطو، ولم يتطابق فكرياً مه ، بل حفظ لذاته هويتها .
          وعندما قرأ التراث اللغوي والنقدي العربيين ، حفظ لذاته أيضاً استقلاليتها فكان مطوراً ، أو كما يقولون علي بلغة الحداثة قارئاً منتجاً ، فلم يكن سجين النصوص المنقولة ، وخير مثال علي ذلك موقفه المختلف عن موقف الفلاسفة المسلمين من نظرية المحاكاة ، وقضية بناء الشعر العربي ، فلم يكن حازم مؤمناً بقداسة التراث ، بل كان مؤمناً بأن التراث فكر بشري يقبل – كغيره – التعديل والتغيير ، وإن آمن دعاة الحداثة وأصحاب التراث بهذا المنهج الذي يحفظ استقلالية الذات ، فسوف تضيق الهوة بينهما ، وستصبح صراحات الصراع آخذة في البرء .
          وقد وجه الدكتو عبدالغني بارة النصح إلي الناقد العربي لضرورة استقلالية الذات في قراءة اآخر وفي التواصل مع التراث ، دون أن يدرك – أو يذكر حتي لا أتهم الرجل جزافاً – أن هذا هو منهج حازم ، فيقول " لكن هل هذا [ الإشارة هنا إلي رأي يذهب إلي أن المشروع الحداثي مجرد دعوة إلي تبني الحضارة الغربية ] يعني أن كل المقاربات النقدية التي أتخذت من المشروع الحداثي الغربي لها ، لا تعدو أن تكون ناقلة للحضارة الغربية ؟ وإذا كان ذلك كذلك ، فهل يتوجب ، والحال هذه أن ينغلق الناقد العربي علي نفسه ويتعصب لذاته ، حتي لا يقع في المحظور المستتر وراء هذا المشروع ، ويكتفي بما يوجد في مستودع التراث ؟ أم أنه يقف موقفاً وسطاَ ، ينفتح علي الآخر منتهجاً طريق النقد الحواري ، يفصل الذات عن الآخر إجرائياً ، حتي يحقق مبدأ الاختلاف والاستقلال كذات لها خصوصيتها المتميزة ، المتفردة بصفتها ، المشبعة بإرثها الحضاري ، وبهذا يتفادي الوقوع في فخ المطابقة ، التي يسعي الآخر / الغرب إلي تحقيقها بوساطة المشروع الحداثي ، كما يتوجب عليه – في الوقت ذاته – الانفصال عن التاث / الذات رمزياً – لا معادته والانفصال عنه نهئياً ، واتهاماته بالقصور ، مثلما يفعل نقاد الحداثة – حتي يتفادي الوقوع في عقده تضخم الأنا ، أو النرجسية المضية التي طالما صحبت نقدنا الإحيائي ([60]) .
          والنصحية الرابعة التي تحد من تفاقم الصراع بين الحداثيين والتراثيين هي إدراك خصوصية السباقات الثقافية العربية والغربية كل علي حدة فلا خير أن نقرأ الحداثة بوحي من التراث ، ولا خير أن نقرأ التراث بوحي من الحداثة ، لكن الرم الأعظم الذي قد يصيب هذه القراءة و تجاهل السياقات الثقافية التي نشأ في رحابها الفكر الحداثي ، أو التنكر لخصوصية السياقات الثقافية للفكر التراثي . يري الدكتور سعد البازغي أن تبني المناهج النقدية الغربية سيظل مشروعاً مهدداً بالإخفاق ، حال عدم إدراك خصائص واقعنا اثقافي وسياقاته المختلفة ، فنحن في حاجة إلي تفكير أكثر استقلالية واصالة في التواصل مع الفكر الغربي ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري إدراك خصوصية السياقات الثقافية الغربلية ، والوعي بأنها سياقات ليست عالمية ، بمعني أنها ليست صالحة لكل زمان ومكان ، بل خصوصيتها تقتصر علي إنجازتا ، وما تناقش من مشكلات وقضايا ، فهي سياقات متميزة ، كما أن لدينا سياقات ثقافية متحيزة خصوصيتها تكمن في واقعها ومشكلاته ، ولن يأتي التطور أو التحديث من خلال التظاهر بأن المواقع واحد والمشكلات واحدة بل من خلال إدراك طبيعة الخلاف ([61]) .
          والنصيحة الخامسة هي إزدواية الهدف ، وتلك النصيحة نابعة من الثقة الموضوعة في التراث والحداثة معاً ، ونابعة – ايضاً – من تحقيق استقلالية الذات الناقدة من الانبهار بالحداثة ومن الهيمنة الثقافية من ناحية ، ومن التقديس المبالغ فيه للماضي والانحباس في سجنه من ناحية أخري .
          هذه النصحية هي الإيمان بإزدواية الهدف ، بمعني أن الحداثيين والتراثيين كليهما ، لابد أن يؤمنا معاً أن الهدف من قراءة الفكر الغربي الوافد أو قراءة التراث هو هدف مزدوج ؛ طرف الأول إثبات قدرة الحديث علي تطوير العقلية العربية والنهوض بها ، وطرفة الآخر هو إثبات قدرة القديم – أيضاً – علي الهدف ذاته الذي يحققه الطرف الأول .
          لكن الخطأ الذي يقع فيه الفريقان هو أن كل فريق منهما يؤمن بهدف أحادي الوجه ، وهو أن الحركة النهضوية ، والتقدم الثقافي ، وتطور العقلية النقدية العربية تنظيرياً وتطبيقياً ، كل ذلك لا يتم – عند الحداثيين – إلا عبر الاتصال بالفكر الغربي الوافد مع الانقطاع عن التراث ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري فإن كل ذلك لا يتم – عند التراثيين – إلا عبر التواصل مع التراث وإعلان هجر الفكر الغربي الوافد .
          كل ما تقدم من نصائح واقتراحات ، سواء ما تعلق منها بكيفية التعامل مع التراث ، أو بآلية التعامل مع الفكر الغربي الوافد ، أو بأساليب رأب الصدع بين الحداثيين والتراثيين ، يمكن أن يشكل منهجاً علمياً يعتمد عليه في إدراك موطن الداء ، ثم تشخيص الدواء ، حتي نتخطي علي أساس علمي سليم – الأزمة الخانقة التي يعيشها الخطاب النقدي العربي المعاصر ، بل ونحقق – ما أولي في علاجه من ذلك – القضاء علي سمة التفرد والانعزالية والعمل الانفرادي التي تتجذر في الذات العربية .
1/ج  : هكذا ينتهي الباحث من الإجابة عن السؤال الذي طرحه وهو : ل تعد الممارسات النقدية العربية في علاقتها بالمرجعيات الغربية المستعارة تبعية تنويرية أم انهياراً للهوية ؟ وقد تبين للباحث أن ثمة فارقاً جوهرياً بين نوعين من الحداثة حداثة الأمس ، وحداثة اليوم ؛ فحداثة الأمس حداثة تبعية تنويرية ، بدأت بالأخذ الحميد عن الآخر لاستكمال ما نقص لدي الذات ، وانتهت بصياغة نظرية نقدية عربية أصيلة – عند حازم القرطاجني في المنهاج – تتميز بأن فيها من الأصيل ما هو أكثر بكثير من المستعار الدخيل ، فهي نظرية لا تقيم قطيعة مع ماضيها ، ولا تنقل مستعاراً إلا إذا كان مستساغاً ، وتستقيم اسسها النظرية والإجرائية مع الإبداع العربي ، فلا يعمد مطبقها إلي لي أعناق النصوص أو استنطاقها بما تفتقر إليه ، ولهذا كانت حداثة الامس حداثة بناءٍ للهوية ، لا هدم لها، واستقلالية للذات ، لا هيمنة عليها .
          أما حداثة اليوم ، فحداثة انهيار للهوية ، بدأت برغبة صادقة ، ونية حسنة في تحديث العقل العربي في مرحلة حرجة ، لكن انتهت بهيمنة ثقافية وسيطرة نقدية ، وصار المستعار يزاحم الأصيل ، ويقهره ، والأخذ يسابق الإبداع ، ويسبقه، وكل ذلك بأيدينا حتي تولدت أزمة الهوية النقدية التي هي فرع من أزمة الهوية الثقافية وانقسم النقاد علي أمرهم ، وبعُدت بينهم الشقة ، وتقطعت أواصرهم وانفصمت عُراهم ، فصاروا ثلاثة فرق .
          فريق يدعو إلي الحداثة ويهجر التراث ، ويري في الغرب مصباح التنوير وسراج التطوير فاستعار منه – بلا وعي يقوده ، ولا إدراك يبصره – فكراً لا يستقيم في تربتنا ، ومنهجاً لا ينسفي غلتنا .
          وفريق ثان متشبث بالتراث ، ويكفر بالحداثة دوماً ، فهو يقدس ما تركه السلف ، ويعُادي ما حققه الخلف ، ويري في مضيه ما به تتحقق كل أمانيه من حفاظ علي الهوية ، وتقدم بلا تبعية ، فانغلق – بذلك – علي ذاته ، وصار سجين تراثه ، فما حقق تقدماً ، ولا أنجز تطوراً .
          وفريق ثالث فهم دوره عن وعي فأخذ من الحديث ما لا يعيبه ، وأخذ من من القديم ما لا يشينه ، وطوّع هذا لذاك ، فجاء بتنظير يحقق للنقد مأربه ، وتطبيق يحفظ للنص هويته .
          فكان هذا الفريق حلقة وصل بين التراثيين والحداثيين ، وقد حاول بما قدم من جهود نظرية وتطبيقية – أن يجمع حسنات هؤلاء إلي أولئك ، وأن يتجنب سيئات هؤلاء وأولئك .
          وقد طرح الباحث حلولاً ونصائح لتخطي أزمة الوية النقدية العربية المعاصرة ، ولرأب الصدع بين دعاة الحداثة ، والمتشبثين بالتراث ، ولكن هذا الطرح جاء في شكل نظري ، وحتي تتحقق أهميته ، وتؤتي هذه الأهمية ثمارها ، يحاول الباحث أن يصوغ هذا الطرح النظري بشكل تطبيقي في المبحث التالي في بحث آخر إن شاء الله .
&&&&&&&&&&&&&&&&


([1]) آلان تورين : نقد الحداثة – ترجمة الدكتور أنور مُغيث – المجلس الأعلى للثقافة – المشروع القومي للترجمة – الكتاب رقم (38) – الطبعة الأولى – القاهرة – 1998 – ص 270 .
([2]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة (نحو نظرية نقدية عربية) –سلسلة عالم المعرفة – عدد272- سلسة كتب ثقافية يصدرها المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب – الكويت – الطبعة الأولى- 2001م   – ص 36 .
([3]) الدكتور / عزت محمد جاد : نظرية المصطلح النقدي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – الطبعة الأولى – 2002 م – ص 433.
([4]) الدكتور / سامي سويدان : جسور الحداثة المعلقة ( من ظواهر الإبداع في الرواية والشعر والمسرح – دار الآداب – بيروت – الطبعة الأولي – 1997م – ص 9 .
([5]) الدكتور /يوسف نور عوض : نظرية النقد الأدبي الحديث – دار الأمين – القاهرة – الطبعة الأولي – 1994م – ص 117.
([6]) المرجع السابق نفسه ، ص 118 .
([7]) الدكتور /جابر عصفور : مفهوم الشعر ( دراسة في التراث النقدي ) الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – إصدارات مكتبة الأسرة – الطبعة الأولي – 2005 م – ص 20 .
([8]) المرجع السابق نفسه ، ص 21 .
([9]) الدكتور / صفوت الخطيب ، قضية الصورة الشعرية عند عبد القاهر الجرجاني (أصولها العربية واليونانية ) – توزيع دار الحديث – القاهرة – الطبعة الأولي – 1989 م – ص 17 – والتالية لها .
([10]) الدكتور / جابر عصفور : مفهوم الشعر ( دراسة في التراث النقدي ) – ص 22 والتالية لها .
([11]) الدكتور /يوسف نور عوض : نظرية النقد الأدبي الحديث – ص 122 .
([12]) آلان تورين : نقد الحداثة – ترجمة د. أنور مغيث – ص 288 .
([13]) الدكتور صفوت الخطيب : قضية الصورة الشعرية عند عبدالقاهر الجرجاني (أصولها العربية واليونانية) – ص 15 .
([14]) الدكتور /يوسف نور عوض ، نظرية النقد الأدبي الحديث – ص 128 .
([15]) عبدالقاهر الجرجاني : أسرار البلاغة – قرأه وعلق عليه أو فهر محمود محمد شاكر  - مطبعة المدني – القاهرة ، ودار المدني – جدة – الطبعة الأولي – 1991 م – ص 26 والتالية لها .
([16]) يراجع الدكتور عبدالعزيز حمودة : المرايا المقعرة -  ص 319 .
([17]) أفاد الباحث من الأسلوبية الإحصائية بوصفه منهجاً لتحقيق نسبة النص إلي مؤلفه الحقيقي – في توثيق شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي وكشف المصنوع والموضوع وأعد ذلك في دراسة تطبيقية عنوانها
( خصائص الأسلوب في شعر أمية بن أبي الصلت ، دراسة في تحقيق  نسبة النص إلي المؤلف ) ، وحصل بها علي درجة الماجستير من كلية الآداب – جامعة المنيا – وألحق بالدراسة نسخة جديدة لديوان أمية .
([18]) جورج بوقون Georges  Buffon  : مقال في الأسلوب Discours sur Le Style   ترجمة أحمد درويش – مجلة فصول – مج 5 – ع 3 – 1985 م – ص 202 .
([19]) عبدالقاهر الجرجاني : أسرار البلاغة –قرأه وعلق عليه أبو فهر محمود شاكر – ص : 7  والتالية لها .
([20]) الدكتور عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة – ص 347 .
([21]) حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء – تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجه – دار الغرب الإسلامي – بيروت – الطبعة الثالثة – 1986  م – مقدمة المحقق – ص 94 .
([22]) محمد الحبيب بن الخوجة : مقدمة منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، ص 95 .
([23]) الدكتور / صفوت الخطيب : نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثيرات اليونانية – مكتبة نهضة الشرق – الطبعة الأولي – 1985 م – ص 305 .
([24]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة – ص 350 .
([25]) الدكتور / صفوت الخطيب : نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثيرات اليونانية – ص 219 والتالية لها .
([26] ) حازم القرطاجنيب : منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، تقديم وتحقيق وتحقيق محمد الحبيب – ابن الخوجة – ص 71 .
([27]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة – ص 366 والتالية لها .
([28]) المرجع السابق نفسه – ص 367 .
([29]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة ، المرآيا المقعرة – ص 34 .
([30]) الدكتور / محمد غنيمي هلال : قضايا معاصرة في الأدب والنقد – دار نهضة مصر للطبع والنشر – القاهرة – الطبعة الأولي – د.ت – ص 50 .
([31]) الدكتور عبدالعزيز حمودة ، المرآيا المقعرة – ص 188 .
([32]) الدكتور كمال أبو ديب : الرؤي المقنعة نحو منهج بيوي في دراسة الشعر الجاهلي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – سلسلة دراسات أدبية – القاهرة – الطبعة الأولي – 1986 م – ص 166 والتالية لها .
([33]) عبدالقاهر الجرجاني : أسرار البلاغة – قرأه وعلق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر – ص 145 .
([34]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة – ص 162 .
([35]) الدكتور / عبدالله إبراهيم :الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الأولي – 2004 م – ص 113 .
([36]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة ، المرآيا المقعرة – ص 150 .
(*)  من بين هذه الدراسات التطبيقية التي أجراها الدكتور سعد مصلوح :
- الأسلوب ( دراسة لغوية إحصائية ) – عالم الكتب – القاهرة – الطبعة الثالثة – 1992 م .
- في النص الأدبي ( دراسة أسلوبيةإحصائية ) – عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية – القاهرة – الطبعة الثانية – 1993م .
([37]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة ، المرآيا المقعرة – ص 158 .
([38]) الدكتور / عبدالعزيز حمود : المرآيا المقعرة – ص 99 والتالية لها .
([39]) الدكتور / صفوت الخطيب ، قضية الصورة الشعرية عند عبدالقاهر الجرجاني – ص 19 .
([40]) الدكتور/ عبدالله إبراهيم : الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة – ص 111 .
([41]) الدكتور / جميل صليباً :المعجم الفلسفي ، الجزء الأول – مادة (ذات) – ص 580 .
([42]) الدكتور / أحمد مجدي حجازي : العولمة وتهميش الثقافة الوطنية ( رؤية نقدية من العالم الثالث ) – مقالة منشورة ، في مجلة عالم الفكر – المجلد الثامن والعشرون – العدد الثاني – 1999 م – والتي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – دولة الكويت – ص 134 .
([43]) فرانسيس ستونر سوندرز : من الذي دفع للزمار  ؟ الحرب الباردة الثقافية : المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب – ترجمة : طلعت الشايب – تقديم : د. عاصم الدسوقي – المجلس الأعلي للثقافة – المشروع القومي للترجمة – عدد 279 – القاهرة – الطبعة الثالثة – 2003م – ص 23 .
([44]) الدكتور / عاصم الدسوقي : مقدمة كتاب المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب – ص 23 .
([45]) نفسه – ص 13 .
([46]) الدكتور / عاصم الدسوقي : مقدمة كتاب المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والأدب – ص 16
([47]) الدكتور عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة – ص 83 .
([48]) المرجع نفسه ، ص 84 .
([49]) ميشال فوكو : حفريات المعرفة – ترجمة سالم يفوت – المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء – الطبعة الثانية – 1987م – ص 27 .
([50]) الدكتور عبدالغني بارة : الحداثة في الخطاب النقدي العربي المعاصر : أزمة تأسيس أم إشكالية تأصيل ؛ قراءة تأويلية في مشروع الناقدين مصطفي ناصف وشكري عياد – فصول – عدد (61) – شتاء 2003 م – ص 254 .
([51]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة : المرآيا المقعرة – ص 483 والتالية لها .
([52]) يُراجع في هذه القضية :
الدكتور صفوت الخطيب : نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثيرات اليونانية .
([53]) الدكتور / عبدالله الغذامي : عقليتنا الثقافية لم تتدرب علي فعل النقد حوار اجراه معه الأستاذ عبدالله السمطي ، ونشر في الموقع www.al-jazirah.com/culture  ، وزار الباحث هذا الموقع يوم الأحد 15 / 7 / 2007 م الساعة الحادية عشرة صباحاً .
([54]) يراجع في هذه القضية :
-          إديث كريزويل : عصر البنيوية – ترجمة الدكتور جابر عصفور – دراسة الصباح – الكويت – الطبعة الأولي – 1993 م .
-          الدكتور / صلاح فضل : نظرية البنائية ي النقد الأدبي .
-          الكتور / عزت محمد جاد : نظرية المصطلح النقدي .
([55]) لدكتور / محمد عبدالمطلب : البلاغة والأسلوبية – مكتبة لبنان ناشرون – الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان – بيروت – القاهرة – الطبعة الأولي 1994 م – ص 356 . 
([56]) الدكتور عبدالسلام المسدي : الأسلوبية والأسلوب – الدار العربية للكتاب – طرابلس – ليبيا – الطبعة الثالثة – 1982 – ص 21 .
الدكتور / صلاح فضل : علم الأسلوب (مبادئه وإجراءاته ) – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولي – 1998 م .
- ملة فصول – عدد الأسلوبية – المجلد الخامس – العدد الأول – ديسمبر 1984م .
([57]) الدكتور / عبدالعزيز حمودة : المرجع السابق ، نفسه – ص 275 .
([58]) الدكتور وليد منير : في نقد الخطاب النقدي – بحث منشور في المؤتمر الدولي الأول للنقد الأدبي ، وعنوانه ( النقد الأدبي في منعطف القرن ) – ص 217 .
([59]) الدكتور / صفوت الخطيب : نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثيرات اليونانية ث- ص 219 والتالية لها .
([60]) الدكتور عبدالغني بارة : الحداثة في الخطاب النقدي العربي المعاصر : أزمة تأسيس أم إشكالية تأصيل ؛ قراءة تأويلية في مشروع الناقدين : مصطفي ناصف وشكري عياد ، مجلة فصول – عدد (61) – شتاء 2003م ، ص 242 والتالية لها .
([61]) الدكتور سعد البازعي : مستقبل النقد ، غربة السياق ( من إشكاليات المثاقفة في النقد الأدبي العربي الحديث ) – بحث منشور في المؤتمر الدولي الأول للنقد الأدبي ، وعنوانه ( النقد الأدبي عند منعطف القرن ) – ص 204 .